شاهد.. فيديو مسرب.. قيادي بالدعم السريع يحاضر الجنود ويطالبهم بتدمير منازل الإعلاميين بمدن العاصمة الثلاث (أرسلنا أمامكم قوات متخصصة في هدم المنازل)    الجنائية الدولية تطلق حملة لتقديم المعلومات حول ارتكاب جرائم حرب في دارفور    مجلس الوزراء: عطلة عيد الاضحى بالأحد    السيسي يدعو إلى إلزام إسرائيل بالتوقف عن استخدام الجوع سلاحا    شرطة مرور كسلا تنفذ برنامجا توعوية بدار اليتيم    في المؤتمر الصحفي للمدرب كواسي أبياه..المباراة لن تكون سهلة ونملك الخبرة الكافية في مثل هذه المواجهات    بتشريف الرئيس سلفاكير ورئيس الفيفا…منتخبنا الوطني ينازل شقيقه في جنوب السودان    الجهاز الفني يقدم محاضرة المباراة ويعلن التشكيلة والجكومي يخاطب اللاعبين    هل كانت المرأة مسؤولة عن توزيع الميراث في "مصر القديمة"؟    تُقلل الوفاة المبكرة بنسبة الثلث.. ما هي الأغذية الصديقة للأرض؟    4 عيوب بالأضحية لا تجيز ذبحها    لماذا قد تبدي "حماس" تحفظًا على قرار مجلس الأمن؟    الملازم أول (م) محمد صديق إبراهيم: لا يبالي على أي شق كان للوطن مصرعه    ليفربول يخطط لإبقاء صلاح تفاديا لسيناريو "الرحيل المجاني"    قنصل السودان بأسوان عبد القادر عبد الله يعلن دفن 51 جثماناً خلال ثلاثة أيام    بفستان أخضر.. إلهام شاهين وإيناس الدغيدي في العرض الخاص لأهل الكهف    وزير الداخليه المكلف يتفقد منطقة اوسيف    عدوي: السودان يمر بظروف بالغة التعقيد ومهددات استهدفت هويته    "حكم تاريخي" على المتهمين بالعنصرية ضد فينيسيوس    في عملية شهدت أحداث درامية بليبيا.. نادي الأهلي بنغازي يخطف لاعب الهلال السوداني جون مانو..يخفيه عن الأنظار يوم كامل ويقوم بتسجيله مقابل 450 ألف دولار للهلال ومثلها للاعب    قصة عصابة سودانية بالقاهرة تقودها فتاة ونجل طبيب شرعي شهير تنصب كمين لشاب سوداني بحي المهندسين.. اعتدوا عليه تحت تهديد السلاح ونهبوا أمواله والشرطة المصرية تلقي القبض عليهم    نداء مهم لجميع مرضى الكلى في السودان .. سارع بالتسجيل    شاهد بالفيديو.. الراقصة آية أفرو تهاجم شباب سودانيون تحرشوا بها أثناء تقديمها برنامج على الهواء بالسعودية وتطالب مصور البرنامج بتوجيه الكاميرا نحوهم: (صورهم كلهم ديل خرفان الترند)    الإمارات.. الإجراءات والضوابط المتعلقة بالحالات التي يسمح فيها بالإجهاض    إسرائيل: «تجسد الوهم»    الإعدام شنقاً حتى الموت لشرطى بإدارة الأمن والمعلومات    بعد موسم خال من الألقاب.. البايرن مستعد للتخلي عن 6 لاعبين    السنغال تعمق جراح موريتانيا بعد السودان    اللعب مع الكبار آخر قفزات الجنرال في الظلام    انقطاع الكهرباء والموجة الحارة.. "معضلة" تؤرق المواطن والاقتصاد في مصر    نصائح مهمة لنوم أفضل    إغلاق مطعم مخالف لقانون الأغذية بالوكرة    شرطة بلدية القضارف تنظم حملات مشتركة لإزالة الظواهر السالبة    الجزيرة تستغيث (4)    انتظام حركة تصديرالماشية عبر ميناء دقنة بسواكن    التضخم في مصر.. ارتفاع متوقع تحت تأثير زيادات الخبز والوقود والكهرباء    إجتماع بين وزير الصحة الإتحادي وممثل اليونسيف بالسودان    أمسية شعرية للشاعر البحريني قاسم حداد في "شومان"    تونس.. منع ارتداء "الكوفية الفلسطينية" خلال امتحانات الشهادة الثانوية    السعودية.. البدء في "تبريد" الطرق بالمشاعر المقدسة لتخفيف الحرارة عن الحجاج    بنك السودان المركزي يعمم منشورا لضبط حركة الصادر والوارد    عودة قطاع شبيه الموصلات في الولايات المتحدة    داخل غرفتها.. شاهد أول صورة ل بطلة إعلان دقوا الشماسي من شهر العسل    محمد صبحي: مهموم بالفن واستعد لعمل مسرحي جديد    خطاب مرتقب لبايدن بشأن الشرق الأوسط    السودان.. القبض على"المتّهم المتخصص"    قوات الدفاع المدني ولاية البحر الأحمر تسيطر على حريق في الخط الناقل بأربعات – صورة    الأجهزة الأمنية تكثف جهودها لكشف ملابسات العثور على جثة سوداني في الطريق الصحراوي ب قنا    ماذا بعد سدادها 8 ملايين جنيه" .. شيرين عبد الوهاب    الغرب والإنسانية المتوحشة    رسالة ..إلى أهل السودان    من هو الأعمى؟!    حكم الترحم على من اشتهر بالتشبه بالنساء وجاهر بذلك    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رجل اسمه بشير جبارة
نشر في آخر لحظة يوم 07 - 04 - 2011

غيّب الموت قبل زهاء عام خلى عمنا المغفور له بإذن الله تعالى بشير جبارة الذي كان يقيم بقرية الدنيقيلة جنوبي حاج عبد الله، حيث أهله وعشيرته.. وبرحيله تنطوي صفحات من نكران الذات الفريد والتجرد المدهش والشمائل التي قل أن تحتشد كلها في إنسان واحد.. وربما ظن قارئي أن في هذا الذي أقول يتساوى الكثيرون من أهل السودان، غير أن عمنا الراحل والحق أقول، كان نسيجاً وحده.. ولقد عايشت وتأملت الناس طوال عمر من الزمان فلم أصادف من يشبه في السجايا والمكرمات والإيثار بشير جبارة، وما أخرني عن الكتابة عنه لعام كامل، إلا إدراكي أن من الأمور ما تعجز عن الخوض فيه الحروف وتنهزم المعاني.. فقد كتبت العديد من القصائد في رثاء أحباب رحلوا، غير أني لم أكتب بيت شعر واحد في رثاء والديّ ولا أشقائي الراحلين.. كان بشير جبارة عالماً متفرداً نذر العمر لخدمة الناس وخدمة منطقته بلا كلل ولا ملل ولا توقف ولا ونى.. ويقول أهلنا السودانيون إن (للقدم رافع)، ونقول إن (للقلم أيضاً رافع).. فكم مرة هممت وجد مني العزم لكتابة هذا الموضوع.. ثم انثنيت وأجلت الأمر.
لم ينل الراحل بشير جبارة شيئاً من التعليم النظامي، بل انخرط في دروب الحياة بعد الخلوة مباشرة وامتهن العمل الزراعي والتجاري.. وأهل الدنيقيلة الذين يجاورون النيل الأزرق يمتلكون الجروف النيلية، بجانب الحواشات.. فهم جزء من مشروع الجزيرة ولمعظمهم متاجر في سوق حاج عبد الله ولكنني رأيت عمنا بشير أول ما رأيته وأنا في سن اليفاعة تاجراً كبيراً في مدينة ودمدني.. وله مسكن فاخر في حي الدرجة أرقى أحياء المدينة.. ثم كان أن صفى أعماله كلها بصورة مفاجئة وقرر العودة إلى حاج عبد الله، حيث أصبح من تجارها قريباً من أهله في الدنيقيلة، ثم ما لبث أن حاز بنبل صفاته وكرمه الجياش الذي يقارب عندي الأساطير.. حاز على إجلال واحترام ومحبة كل أهل المنطقة وأهل الدولة بمختلف درجاتهم ومقاماتهم فالصالون الفسيح بمنزله بالدنيقيلية يحتشد بلا انقطاع بالضيوف خاصة كبار المسؤولين على المستوى القومي والولائي ويدهشك لحد بعيد التباين السياسي للذين دخلوا مرات ومرات ديوان بشير جبارة ونهلوا من ذياك الكرم الحاتمي وتحضرني في هذا المقام أبيات شعر للشاعر الكبير ود الرضي في مدح العمدة طه البطحاني.
(أخو المحتاج بيوتك بالضيوف منزربة
الناس عمروا الدنيا أم بناين خربة
وإت زينت أخراك بي بشاشة وطربة
تعال يا الفنجري بي ذكرو ها نتحاجى
الولد الفي ليالي الحوجة بقضي الحاجة
ضباح اللبح عندو الدعول موش حاجة
إيدو طويلة للناس الزمانة أحاجة)
والكرم أوقع ما يكون في ليالي الحوجة وفي سنين القحط حين يعز الموجود .. فهل نظر ود الرضي لأبي نواس وهو يمدح الخوسيب بقوله: (فتى يشتري حسن الثناء بماله ويعلم أن الدائرات تدور).
جواد إذا الأيدي كففن عن الندى ومن دون عورات النساء غيور.
نعم الجود أوقع حين تكف الأيدي عن الندى.. وأقسم أن كل هذا الوصف يقصر عن وصف كرم عمنا الراحل بشير جبارة فمن عادته الراسخة أن يرفع هدية في عربة زائرة بعد أن يذبح له الذبائح ويكرمه وحدثني ابنه أن زائراً من كبار المزارعين بالمنطقة زارهم ولما انتهت الزيارة وهم بالذهاب لم يجد والده ما يرفعه له فوجهه أن يطوي الموكيت الجديد المفروش في الديوان ويرفعه له ففعل.. فتأمل! قلت إن ما يدهش حقاً هو التباين السياسي لزوار هذا الزعيم القومي بكل ما تعني هذه العبارة فهو لا يعادي ولا يعارض ولا يبخس للأنظمة جهدها في إصلاح البلد لذا وجد قبول الجميع فمن زوار ديوان بشير جبارة بالدنقيلية، الرئيس أزهري والرئيس المحجوب والرئيس عبود والرئيس الصادق المهدي والرئيس نميري والرئيس سر الختم الخليفة والزعيم الشريف حسين الهندي والرئيس البشير ومن حكام وولاة الجزيرة: أبو القاسم هاشم، كرار أحمد كرار، عبد الرحيم محمود، عثمان عبد القادر، فاروق إسماعيل، إبراهيم رضوان، عبد الوهاب عبد الرؤوف، سليمان محمد سليمان، الشريف بدر، إبراهيم عبد الله، العوض الحسن، عبد الرحمن سر الختم.. أضف لهؤلاء الآلاف وليس المئات من عاملي الدولة بتلك المنطقة والذين يعرجون عليه وهم في طريقهم جنوباً صوب مناطق سنار والدمازين وغيرها والسؤال ما الذي جعل أفئدة كل هؤلاء تأوي إلى هذا الرجل وهو ليس بالسياسي ولا الصوفي ولا صاحب صفة رسمية ونشهد الله ونحن أهله وعشيرته أننا لم نسمع يوماً أنه وقف أمام رئيس أو حاكم يطلب أمراً شخصياً وقد ذهب إلى بارئه وهو خالي الوفاض من مال أو جاه، أو مدخر. توغل بشير جبارة توغلاً عميقاً في قضايا العمل العام وأهمل لحد كبير التجارة تاركاً أولاده للإهتمام بأمرها وكانت فترة النميري هي الفترة التي شهدت عنفوان تجردة وانخراطه في قضاء حوائج الناس وإعمار المنطقة وقد توطدت علاقته مع الرئيس نميري لدرجة كبيرة وكان حتى آخر أيامه يحرص على زيارة النميري.. ومن المعروف أن مصنع الغزل الرفيع قد وضع في حاج عبد الله بناء على التماس من بشير جبارة للرئيس نميري لأن في وضعه هناك تطوير للمنطقة وفي فترة النميري تم إنشاء وافتتاح المدارس بجميع مراحلها بمنطقة الحاج عبد الله وذلك بالطبع بجهده ومثابرتة وفي الفترة ذاتها تمكن بشير جبارة بمؤازرة تامة من نظام الرئيس النميري من تعميم مياه الشرب لكل قرى المنطقة وتم له في فترة حكم الصادق المهدي إدخال الكهرباء بتصديق من وزارة المالية أيام كان وزيرها الزهاوي إبراهيم مالك لم يكتف بشير جبارة بتأمين الخدمات الأساسية لأهل منطقته بل طفق ينهض ويقود كل ما يرى أن من شأنه تطوير المنطقة فسعى على سبيل المثال سعياً متصلاً لافتتاح بنك بسوق حاج عبد الله وتبرع باثنين من دكاكينه مقراً للبنك دون أجر وأذكر أنني سألته : ( ياعم بشير البنك بتبرع ولا يتبرع ليهو؟) ولكن في سبيل ترقية البلد أعلم أنه كان يخوض كل شيء خوضاً وجاءت فترة تبديل العملة بالعملة الجديدة فعجبت وقد جئنا كمراقبين من ولاية الجزيرة أن وجدناه يصول ويجول ويتبنى إقامة وضيافة المحاسبين والصرافين وهم بالعشرات.. وكان يقول لي بزهو: (شايف الصفوف دي.. البلد دي فيها قروش كتيرة) كان يزهو بهذا ولم يكن له هو على المستوى الشخصي ما يبدله ولكن كان هذا دوماً دأبه فإن جاءت أتيام الحفريات أو الإحصاء أو التطعيم أو خلافه تحرك فوراً وأمن لهم المنازل بالقرية والضيافة حتى فراغهم من مهامهم وكان يرى أن مصنع الغزل الرفيع ليس وحده الذي يطور البلد بل حتى الفرن الآلي يؤشر إلى التطور لذا جاءنا بود مدني يسعى لتصاديق مخابز آلية ومصنع للثلج وكان له ما أراد للقبول الذي يجده من المسؤولين ولثقتهم في عفته.. وقام بتوزيع التصاديق لغيره ولغير أهله حسب طلبه كان يزداد فقراً ويزداد الناس بجهده ثراءاً وجاهاً.
كثيرون الذين حببهم الله في قضاء حوائج الناس وقد أتاح لي عملي في سلك الحكم المحلي كضابط مجلس ثم كمحافظ أن أصادف عدداً منهم في فجاج السودان التي عملت بها ومن هؤلاء النائب التشريعي أو زعيم الحزب السياسي أو من تعود عليه الخدمة بفائدة يجنيها ولكن بشير جبارة كان يعمل لوجه الله ولمصلحة منطقته وأهله، وإن رحل إلى بارئه عن عمر يناهز الثمانين فنشهد أنه أمضى خمسين عاماً خالصة في خدمة الناس بلا أجر دنيوي بل كان يصرف من عائد تجارته وزراعته حتى أنفقها كاملة في خدمة الناس ورحل راضياً مرضياً ومثلما تنطوي برحيله صفحات التجرد ونكران الذات إلا لدى من رحم ربي فإن الصورة التقليدية للرجل السوداني تتوارى وتنتهي برحيله، فالراحل من جيل لا يعرف للمأوى وتناول الوجبات والراحة بديلاً للديوان الواسع الفسيح ولا يعرف تناولاً للوجبات بلا ضيوف.. وأستطيع أن أؤكد أن الراحل بشير جبارة رحل إلى بارئه دون أن يعلم أو يرى أين يصنع الطعام في بيوته فليس من عادة أولئك الرجال الأفذاذ الدخول للمطبخ.. يتحرك الراحل وأولاده بعد صلاة الصبح وشرب الشاي في الديوان مباشرة إلى سوق حاج عبد الله لمباشرة متاجرهم وتعود العربة بعد وصولهم محملة بلوازم المعيشة اليومية والتي تشمل متسعاً كاملاً للضيافة هذا هو البرنامج شبه الأزلي للحياة في تلك الديار السودانية الريفية.. وعند الرابعة عصراً تلتئم أسرة الراحل بشير في الديوان بعد عودتها من السوق وتتناول الأسرة مع ضيوفها وجبة الغداء وتمضي الحياة على وتيرتها المعتادة. هذه بضع كلمات لا تحيط بالطبع بحياة الزعيم الأهلي الفريد بشير جبارة وكأني بصديقي الحميم الشاعر العظيم الراحل الطيب محمد سعيد العباسي قد عناه وهو يرثي والده:
(وإن أسرع الساعون للمجد فاتهم
وإن قبلوا الدنيا على ما بها أبى
ويستقبل الأضياف بالبشر والقرى
ويوليهمو أهلاً وسهلاً ومرحباً
مهيب متى لا قيته خلت أنه
نبي باثواب المعالي تجلببا
يحف به آل تغنى بحبهم
ويقدمه رهط الملائك كوكبا)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.