التحقيق الجنائي هو علم اكتشاف الجريمة ومكافحتها، وهو علم مستقل يعتمد في تطبيقه على مجموعة علوم أخرى كعلم النفس والاجتماع والإجرام، كما يستهدف ضبط الجريمة وقبض الجناة إلى جانب منع الجريمة أو الحيلولة دون وقوعها، كما يلاحظ أيضاً أن الخبرة في التحقيق الجنائي ليست بالأمر الميسور والمكتسب عن طريق الدراسات النظرية، لكنه في واقع الأمر حصيلة جهد شاق وممارسة فعلية لكل ما يتعلق بهذا الحقل العلمي المتشعب الواسع الأطراف، ولا يعني هذا التقليل من الدراسات النظرية، بل على العكس فقد كان للعلماء - أمثال برايتون وكروس وكالتون ولوكارا ولمبرور وهايندل - أفضل الأثر في وضع قواعد للتحقيق الجنائي، ترتكز على تسخير العلوم لمحاربة الإجرام وكشف الجريمة، فلهم من كل باحث في هذا البحر كل تقدير. إن التحقيق الجنائي صراع بين المحقق والمجرم، الأول ينشد الحقيقة عن الجريمة والثاني يحاول التضليل وطمس الحقائق حتى يفلت من العقاب، ولكن بقدر ما يكون للمحقق الجنائي من خبرة وفراسة وإلمام بالعلوم الجنائية والنفسية، وبقدر ما يتمتع به من كفاءة ومقدرة وسيطرة على المواقف التي يواجهها، بقدر ما تكون النتيجة في صالح التحقيق إرساءً لقواعد الحق والعدل.. والتحقيق بمعناة العام يعني اتخاذ جميع الإجراءات والوسائل المشروعة التي توصل إلى كشف الحقيقة، أما التحقيق الجنائي العملي فهو علم يوضح للمحقق معالم الطريق ويرشده إلى كيفية البحث والسير في جمع الأدلة. إن التحقيق الجنائي العملي علم متمم لقانون العقوبات والإجراءات الجنائية، فمن وجهة قانون العقوبات يرشدنا هذا العلم إلى الطريق والوسائل التي يمكن بها استكمال وإثبات أركان الجريمة، ويساعدنا في الوصول إلى معرفة الوقائع التي تحدد وصفها القانوني، ويبين لنا كذلك الوسائل التي نكشف بها عن الظروف المحيطة بكل جريمة ويكون من شأنها تشديد أو تخفيف العقوبة، ومن جهة القانون والإجراءات الجنائية يشرح لنا هذا العلم كيفية القيام بإجراءات التحقيق، على ضوء ما استحدث من الفنون والعلوم والاكتشافات وعلى هدى التجارب والمشاهدات، فهو الذي يرسم لنا أفضل الأساليب وأنجح الوسائل للتوصل إلى معرفة وقوع الحدث وكيفية التصرف في هذا الشأن، من حيث تحضير المحضر اللازم وعمل المعاينة وإجراء التفتيش والاستعانة بالخبراء وسماع الشهود واستجواب المتهم وجمع كافة الأدلة، وإجراء سائر الأبحاث التي تمكن المحقق الجنائي من إظهار الحقيقة وكشف غموض الحوادث وضبط الجناة. ويتفرع من علم التحقيق الجنائي العلمي علم البحث الجنائي، وهو العلم الذي يوضح الإجراءات والوسائل التي يكون الغرض منها الوقوف على السبب المجهول لوقوع الحوادث، كذا جمع الأدلة التي تثبت وقوع الجريمة وكيفية وقوعها وإجراءات جمع الدليل لضبط المتهم وتقديمه للمحاكمة. والمحقق الجنائي هو كل من عهد إليه القانون بتحري الحقيقة في الحوادث الجنائية وتحقيقها، ويسهم بدور في كشف غموضها وصولاً لمعرفة حقيقة الحادث وضبط الفاعل. المحقق.. واجباته وصفاته: إن عمل المحقق من أهم وأجل الخدمات التي يؤديها الفرد لمجتمعه، لما في هذا العمل من مسؤوليات جسيمة وواجبات متعددة، ولما يترتب عليه من نتائج بعيدة المدى، ولاشك أنها مهنة شائقة لأن الزهو والثقة مما تحسه النفس وهي جادة باحثة وراء الحقيقة، مشاعر تعوض المحقق عن كده وجهده وشقاه، وتولد لديه الإيمان برسالته.وما إقبال الناس على قراءة القصص البوليسية بشغف إلا مظهر لما لهذه المهنة من طابع شائق مقبول، ولابد لذلك أن يتمتع المحقق بكفاءة عالية وعزيمة جبارة وجلد عظيم، وأن يكون شديد اليقظة والانتباه وقوي الملاحظة، وأن يكون إنكار الذات وسلامة الطبع والمقدرة وقوة الاحتمال والعزيمة القوية وسعة الأفق والمعرفة من أهم صفاته، كما يجب أن يكون شجاعاً مقداماً محباً للمغامرة والتضحية، كما يساعده إلمامه باللغات واندماجه في المجتمع بكل طبقاته في نيل العون الذي ينشده لأداء رسالته السامية. وفضلاً عن إلمام المحقق بالقوانين والتدريب المهني واللياقة الطبية والخبرة، فإنه يجب أن يكرس وقته لعمله ويكون شغوفاً به، وعليه أن يتعلم باستمرار أشياء تزيد إلى حصيلته ولو كان خارج العمل. ويهتم خلال حياته اليومية بما لهذا الكون من مظاهر الإنارة وشكل الأعشاب وحلة الأوراق الملقاة على الأرض، ومسلك السابلة، لأن معرفة الحقائق في علم التحقيق تؤدي إلى معرفة الحقائق الأخرى، وهذا بالطبع لا يتم الحصول عليه إلاّ بعد جهد جهيد ورغبة صادقة في خدمة المجتمع. واجبات المحقق: على المحقق واجبات عدة يمكن إيجازها في الآتي: 1/ إثبات أو نفي وقوع الجريمة 2/ إقامة الدليل وجميع البيانات على وقوع الجريمة وكيفيته. 3/ جمع الأدلة التي تدين المتهم 4/ إثبات حالة من وقعت عليه الجريمة {الإجابة على الإسئلة التالية: 1/ ماذا حدث؟ وعليه تحديد الفعل الذي اقترفه الجاني 2/ متى؟ وذلك بتحديد التاريخ والوقت 3/ من الذي أتى بالفعل؟ أي من الجاني 4/ لماذا؟ وذلك بتحديد الدافع إن كان النهب مثلاً أو غيره من دوافع الجريمة. ومن هذا يتضح أن على المحقق أن يركز منذ الوهلة الأولى على جمع الأدلة التي تثبت وقوع الجريمة وتدين مرتكبيها، لأن الأصل في الإنسان البراءة، والمتهم بريء حتى تثبت إدانته، كما يلزم المحقق بالإضافة إلى ذلك ليكون النجاح رائده، أن لا يكون رأياً قاطعاً منذ أول وهلة، وأن لا يعتقد أنه من المحال الوصول إلى نتائج أفضل مما حققه فعلاً ما لم تنكشف الجريمة تماماً. ووسيلته إلى ذلك أن لا يتأثر بالبلاغ الذي يتلقاه من المبلغ، وأن يسارع بمعاينة مسرح الجريمة ويفحصه بدقة متناهية، مدوناً كل ملاحظاته بشيء من التفعيل، وعليه دائماً وأبداً أن يتذكر أن أغلب المجرمين وأكثرهم ضلاعةً وحرصاً يترك وراءه ما يدل عليه، ويجب ألا يعتقد أن المجرم ليس بالحماقة التي تجعله يترك الدليل الشافي عنه، ويجب ألا يغيب عن ذهن المحقق المثل المعروف «فتش عن المرأة»، لأن وراءها يكمن السر الدفين في كثير من الجرائم الغامضة.. وعليه أخيراً أن يحيط عمله بسرية ويتجنب المبالغات والتفاخر والمباهاة بذكر تفاصيل ما قام به من تحريات. لواء شرطة متقاعد