مواصلة لما بدأناه بالأمس من حديث حول الجدل الدائر بين قوى المعارضة والحكومة (فرع المؤتمر الوطني)، والذي يرفض فيه «الوطني» بعناد وتهكم دعوة أحزاب الإجماع الوطني لتأجيل الانتخابات إلى شهر نوفمبر المقبل؛ من أجل تحسين شروط إجرائها في أجواء أكثر ملاءمة من حيث النزاهة والشفافية والعدالة ومن حيث الشمول، حتى يتسنى للحكومة ولأطراف الصراع في دارفور مزيد من الوقت لبلوغ عتبات السلام والتراضي، وحتى تتوافر مناخات أفضل في جنوب كردفان وأبيي التي قررت المفوضية القومية طائعة مختارة تأجيل الانتخابات المحلية فيها لستة شهور أخرى، واكتفت باقتصارها على الرئاسية والبرلمانية القومية. ففي هذا الجدل يتمترس المؤتمر الوطني في موقف الرفض لأي محاولة للتأجيل، ويعتبرها كما أشرنا بالأمس نوعاً من الهروب إلى الأمام من جانب المعارضة خشية أن تكشف صناديق الاقتراع هزال هذه الأحزاب وضعف جماهيريتها، وتضعضع أوضاعها بعد أكثر من عشرين عاماً من حكم «الإنقاذ».وهنا يثور سؤال منطقي.. ماذا يضير الإنقاذ إذن في الدعوة لتأجيل الانتخابات؟! فإذا كانت هذه الأحزاب التي تدعو للتأجيل قد بلغت شأواً بعيداً من الضعف والهزال؛ فهل يعتقد المؤتمر الوطني أن الشهور السبعة الفاصلة بين تاريخ إجراء الانتخابات في «أبريل» ومقترح إجرائها في «نوفمبر» المقبل كفيلة بتغيير خارطة الولاءات السياسية على مستوى البلاد؟! لا أعتقد أن ذلك ممكن، إلاّ إذا كان تقييم «الوطني» لأوضاع هذه الأحزاب وأوضاع الخريطة السياسية هو من قبيل الدعاية الانتخابية و«الحرب النفسية»، أما إذا كان مطمئناً لتقييمه وتقديراته المعلنة فيجب أن لا يتوقع تغييراً مهماً أو جوهرياً في خارطة الولاءات السياسية الماثلة، وبالتالي لن يضيره تأجيل الانتخابات لسبعة شهور أو نحوها من وجهة النظر السياسية. وتفريعاً على ذات السؤال: هل يعتقد المؤتمر الوطني أنه صرف من الوقت والجهد والمال الكثير الذي لا يمكن التفريط في نتائجه الأكيدة والمضمونة، وبالتالي يجب أن تقوم الانتخابات في موعدها «بمن حضر»؟.. وفي هذا نعتقد أن ما صرفه «الوطني» من مال وجهد ووقت لن يضيع سدى ولن يذهب صيحةً في وادٍ أو أدراج الرياح، بل بإمكانه مواصلة حملته الانتخابية المسنودة بإمكانات الدولة والإنجازات والمشروعات الجديدة التي تغطيها أجهزة الإعلام القومية من دون تكاليف تقع على عاتقه «كحزب». أما لجهة شمول الانتخابات لدارفور وجنوب كردفان وأبيي، فإن التأجيل سيعني بالنسبة له توفير سانحة ووقت إضافي لإكمال جهوده لحل الأزمات التي تؤرق تلك المناطق، خصوصاً دارفور التي وقّع فيها خلال الشهور والأسابيع القليلة الماضية اتفاقيتي إطار مع «حركة العدل والمساواة» ومن ثم مع «حركة التحرير والعدالة»، وهي اتفاقات تحتاج وقتاً لمزيد من التفاوض والتفصيل تمهيداً لوضعها موضع التطبيق. لكن الأهم من ذلك، فحتى لو اعتبر «الوطني» أن كل الذي ذكرنا في ما يتصل بالخريطة السياسية، أو الجهد والمال المبذول، أو شمولية الانتخابات، ليس كافياً لإثنائه عن موقفه الداعي لإجراء الانتخابات في أبريل «بمن حضر»، يظل السؤال قائماً: ماذا يضير المؤتمر الوطني أن يمنحه معارضوه طوعاً فرصة سبعة أو عشرة أشهر أو عام إضافي ليواصل في الحكم بصيغة نيفاشا مع شريكه الأصغر الحركة الشعبية لتحرير السودان؟.. لا أعتقد أن المؤتمر الوطني سيخسر جراء استمراره في الحكم إلى مشارف نهاية الفترة الانتقالية برضاء منافسيه، خصوصاً فهو غير مستعد لتغيير التركيبة الحاكمة خلال فترة التأجيل كما أعلن الرئيس البشير في إحدى جولاته الانتخابية، كما أن المعارضة- كما علمت من مصدر مهم في صفوف أحزاب الإجماع الوطني- ترفع شعار: «الحكومة القومية» كنوع من الضغط، أكثر من كونها تأمل في قيام حكومة قومية تشرف على إجراء الانتخابات، وكل ما تتوقعه أن يتم تحسين شروط وظروف الانتخابات خلال فترة التأجيل لجهة إعادة النظر في التسجيل و«استعدال» أوضاع المفوضية وتأمين الرقابة، بحيث يمكن تأمين حدٍ أدنى من الحرية والنزاهة، وفوق هذا وذاك فالمؤتمر الوطني يعلم علم اليقين أن الحركة الشعبية لن تفرط- لأسباب موضوعية وعملية- في صيغة الشراكة القائمة معه لصالح قيام «حكومة قومية»، وهي الصيغة التي تمثل مفتاحاً بيد الحركة لإنفاذ إرادتها وحفظ حقوقها المقررة وفق اتفاقية السلام وأحكام الدستور القومي الانتقالي. وعليه، فإنه لن يكون في الأمر مفاجأة كبيرة أو صاعقة بالنسبة لنا، إذا ما وافق المؤتمر الوطني في اجتماع هيئة الرئاسة اليوم (الثلاثاء) واستجاب لاقتراح شريكه «الحركة الشعبية» أو رجائه بتأجيل الانتخابات، فبحسابات السياسة والمصالح الواقعية والباردة فإن المؤتمر الوطني لن يخسر شيئاً ذا بال إذا ما أُرجئت الانتخابات، بل على العكس فإن ذلك سيساهم في تحسين صورته وموقفه أمام الرأي العام المحلي والإقليمي والدولي ويظهره بمظهر التجاوب والمرونة، ويمحنه المزيد من الوقت لاستكمال المفاوضات مع الفصائل الدارفورية ومزيداً من الوقت في مقاعد السلطة برضاء معارضيه ومنافسيه، مثلما يجنب البلاد مخاطر ومنزلقات يمكن أن تترتب على قيام انتخابات متنازع على حريتها ونزاهتها.