هذا نقدٌ ذاتي نقدمه بكل تواضع في هذه الورقة، متعرضين لأدواء حزبنا العملاق واصفين الأعراض، ونظن أننا مشاركون في وصفات العلاج الناجع. أولاً: بلا منازع هذا الحزب هو قطب الرحى في الحركة السياسية السودانية بدءاً بمؤتمر الخريجين العام وحتى يومنا الماثل هذا. ثانياً: في كل منعطفات الحياة السياسية السودانية، سلباً أو إيجاباً لم تفقده الجماهير على مختلف مسمياتها، وألوان طيفها السياسية، ابتداءً من معركة تحقيق الاستقلال، حيث فاجأ الحزب العالم كله بإعلان الاستقلال من داخل البرلمان، معلناً بذلك النهاية الأبدية للارتباط والتبعية لمصر، ومعلناً أيضاً (خلع الطرابيش التي كانت قابعة فوق الرؤوس). ثالثاً: خاض الحزب انتخابات حرة ونزيهة أذهلت العالم الذي كان يتوقع اكتساح الحزب لها، انتصاراً لدعوة الوحدة مع مصر، واستطاعت قيادة الحزب من خلال ممارستها اليومية للحكم، ضرب الأمثلة الرائعة في التجرد ونكران الذات وتربية كل الشعب - حكومة ومعارضة - تربية ديمقراطية سليمة ومعافاة، لا يرضى شعبنا غيرها منهجاً للحكم. وقد أراد الحزب وفق تصميم قوي أن يسير بالديمقراطية ويطور من خلالها أساليب الحكم، ولكن مؤامرات العسكريين قعدت به عن تحقيق ذلك. تلك المؤامرات التي استمرت إلى يومنا هذا، مفرخة ثلاثة نظم حكم شمولية نالت من عمر الاستقلال ما يقارب نصف القرن، وقبرت كل الآمال في التقدم والرفاهية وجني ثمار الاستقلال.. وإن مفخرة هذا الحزب العتيد العنيد أنه نأى بنفسه عن المشاركة في التخطيط والتنفيذ لتلك الانقلابات العسكرية وشعبنا بعد الله شاهد على ذلك. ظل هذا الحزب على مستوى قيادته التأريخية يرفع رأس السودان عالياً في كل المحافل الإقليمية والدولية، ونوجز هنا بعض الأمثلة: أصر السودان في وقت باكر بقيادة الأزهري ورفاقه، أن يكون جزءاً من منظومة دول عدم الانحياز، فشارك بوفدٍ علمه أبيض، حيث لم يكن للسودان علم معترف به، قبيل الاستقلال في مؤتمر (باندونق)، فكان جنباً إلى جنب مع ناصر وتيتو وسوكارنو وآخرين. مثال آخر: هو أن الشريف حسين الهندي خلق علاقات متميزة ومتقدمة مع مصر والعراق وإثيوبيا وإرتريا وليبيا وسوريا ولبنان ودول أخرى، وليس أدل على ذلك من طواف جثمانه الطاهر، بالطائرة على سبع دولٍ أو ثماني قبل أن يسجى جسده الطاهر بمقابر الشريف ببري. وكان الإعلام سلاحه فقد جلجل صوته من إثيوبيا عبر المذياع، وكانت جموع الشعب تستمع إلى تعريته لنظام المايوي.. أما مجلة الدستور التي كانت تصدر في بيروت، فقد استقطبها الشريف صوتاً قوياً لمعارضة نظام نميري حتى سقط، واستمرت في التبشير بديمقراطية السودان حتى بعيد الانتفاضة.. ويجدر بنا القول إن ضمن معاركه مع رفاقه في الجبهة الوطنية التي كان يترأسها الإمام الحبيب (الصادق المهدي)، أن إثيوبيا وإرتريا كانتا منطلقاً للعمل العسكري ضد مايو. مثال آخر: كان المرحوم صالح محمود إسماعيل ممثلاً للحزب في حكومة أكتوبر الأولى وزيراً للإعلام، حيث أنه وراء تمرير الاسلحة لثوار الكنغو عبر السودان، وكان ذلك مفخرة لنا، أثارت ضجة كبرى وسط القوى الاستعمارية. ولا بد من الوقوف أمام مدرسة اتحادية كبرى قوامها علي محمود الحسنين (رد الله غربته).. أيضاً لن ننسى طيب الذكر المغفور له محمد إسماعيل الأزهري الذي لم يقل كان أبي إنما كان يقول ها أنذا، داعياً لاستنهاض الحزب وبعث النهضة في أوصاله الممزقة. ومن أهم إنجازات الحزب قناعة طائفة الختمية بنهجه السياسي حينما اختلف المغفور له السيد علي الميرغني مع قيادات الحزب، ولم يقوى ذلك الحزب الجديد الذي كونه كثيراً على منازلة الحزب الأم، فسرعان ما عاد إلى الحظيرة موحداً مع قرينه الحزب الاتحادي الديمقراطي أيضاً برعاية مولانا السيد علي الميرغني.. فظل الحزب طيلة مراحله ملهماً للجماهير، وحادياً لركبها بوعي وإدراك وليس تبعية أو إشارة، فحينما تردد الجماهير: (لا ضلال ولا تضليل عاش الشعب مع إسماعيل) فإنها تعي وتعني ما تردد، حيث قاد ذلك الإسماعيل المعارك الطاحنة ضد الطائفية.. أما إذا تعرضنا لشعار حريق العملة، حريق الشعب! فقد كان شعاراً قومياً مستنكراً مهزلة حريق العملة. عفواً فقد أكثرنا الحديث عن إيجابيات الحزب فلا مناص من أن نتحدث عن السلبيات الكثيرة، التي جعلت الحزب مثار تندر وسخرية من جهات عديدة. فإن القيادة التاريخية للحزب والتي أطرينا كانت من جيل واحد ومدرسة فكرية واحدة، لكن لم يتركوا خلفاً لهم ولم يدربوا كوادر مؤهلة للسير بالحزب للإمام إلاَّ القاعدة العريضة من الشعب، وما إن أطل عقد التسعينيات حتى وجد الحزب نفسه جسداً بلا رأس ولا روح، ومنذ ذلك الوقت أخذت الجماهير تتخبط ذات اليمين وذات الشمال رغم استيعابها لبرنامج الحزب وأهدافه، وما معركة انتخابات 1986م وتعدد المرشحين من الحزب إلاّ خير شاهد على ذلك.. وكانت النتيجة أن فقد الحزب معاقله الرئيسية في العاصمة لحزب صغير وانتهت بذلك أسطورة (بحري لمين لنصر الدين). تحولت القيادة التاريخية إلى راعي الحزب مرشد الطريقة الذي كان حيراناً أسفاً حيال نتائج انتخابات عام 1986م، وسرعان «ما دقت المزيكا» في منتصف عام 1989م معلنة وصول «الجبهة اللابسة الكاكي» إلى دست الحكم (أو كما قال شاعر الشعب محجوب شريف)، وأيضاً سرعان ما هرولت قيادات الأحزاب إلى المهجر معلنين عصيانهم للنظام الجديد، وإصرارهم على مقاومته حتى هزيمته، مكونين التجمع الوطني الديمقراطي برئاسة مولانا السيد محمد عثمان الميرغني.. ويعتقد غالبية الاتحاديين أنه لا مناص من قيادته وزعامته للحزب حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً. ولعل كثرة الفصائل والانشقاقات قد ارتطمت بهذا الحائط السميك من عطاء مولانا الثر.. وكثيرٌ منها تدفعها وتغذيها المصالح الشخصية وطموحات الزعامة التي ترى أن الميرغني أقل تأهيلاً منها، باستثناء مبادرة الهندي الذي لا نشك في صدقه ووطنيته وانطلاقه من أنه الأمين العام، فحاقت بمبادرته لعنة الميرغني (إن صح القول..) فصار ملكياً أكثر من الملك، بوزرائه ومستشاريه الحاكمين اليوم. إن موكب تشييع جثمان السيد الثاني والتي خرج فيها الملايين من أبناء الشعب السوداني، لم تكن لمجرد التشييع فقط بل كانت استقبالاً وابتهاجاً لرؤية السيد العائد.. فكان ذلك استفتاءً حقيقياً على الحزب والقيادة، واعتقد الكثير من الاتحاديين الخلص الأوفياء أن سرادق العزاء كان يمكن أن تكون منطلقاً حقيقياً لعقد المؤتمر العام. نخلص من كل ما تقدم إلى أن (روشتة) العلاج الحقيقي والأنجع لأدواء هذا الأسد الهصور هي: انعقاد المؤتمرات على كل المستويات، من الحي والفريق، والقرى والمدن والدساتر، حتى المؤتمر العام.. وانعقاد المؤتمرات القطاعية للشباب، والمرأة، والمهنيين والأدباء والفنانين والعمال والمزارعين والرعاة، وفق منهج ديمقراطي متكامل، ليخرج المؤتمر العام للقيادة الحقيقية للحزب دون وصاية من أحد.. ويخرج بالأخص ببرنامج خاص يستقطب كل مواليد مايو والإنقاذ وكل من ترعرعوا في أحضانهما.. ونأمل من ذلك المؤتمر العام أيضاً أن يخرج ببرنامج تفصيلي لمبادئ الحزب وأهدافه.. وأيضاً لا بد من تجديد لوحدة السودان بكل أقاليمه، مع اعتبار خاص لصيحات المهمشين والمسحوقين، دونما تفريط أو تهاون في سودان 1956م الذي به نفخر ونرفع رايته عالية. والحمد لله من قبل ومن بعد الأمين العام للحزب الاتحادي الديمقراطي