الشعب السوداني شعب عظيم، والشعوب العظيمة هي التي تستطيع أن تتغير بقدر ما تغيرت الظروف المحيطة بها، وتسعى بكل ما تملكه من مؤهلات توفر لها الدخول إلى قاعات الحوار، ولا تكون مثل الذين ينتظرون ما سوف يتقرر لهم وهم متفرجون! والديمقراطية ليست غاية في حد ذاتها، ولكنها أفضل وسيلة عرفها الإنسان لبناء الحوار الموضوعي داخل المجتمعات المتحضرة، بهدف تقريب المسافات وليس تضخيم التناقضات، والبحث عن الإيجابيات، وليس انتقاء السلبيات، وحشد كل القوى بإتجاه الطريق الصحيح لتحقيق كل ما هو ممكن وتجنب كل ما هو مستحيل! ومن يطل على المشهد الدولي والإقليمي بعناية، يجد أن أكبر خطر تعرضت له بعض الدول القريبة والبعيدة منا، كان مصدره الأساسي عدم الانتباه لشرور الكلمة غير المسئولة والسلوك الفوضوي! والذين سمحوا للشارع أن يكون مسرحاً للجدل والفوضى السياسية، بدلاً من ساحة البرلمان هم الذين تصل صرخاتهم لأسماعنا بعد أن حل الخوف محل الأمان والقهر محل الإقناع، بعد مساحة الشقاق والصراع على حساب الحوار السليم بين الرأي والرأي الآخر!. بدلاً من أن نلتفت إلى مواجهة أخطار وتحديات ومطامع الخارج، أصبحنا نشعر بأن المخاطر التي تهدد وطننا من الداخل أشد ضرراً وفتكاً من المخاطر التي نتحسب لها، وهي تلوح في الأفق قادمة من الخارج لبسط الهيمنة وفرض الوصاية، وإدخالنا في مناطق النفوذ! ما يحدث في السودان من خلافات ربما تكون وراءه أصابع أجنبية، ولكن المسئولية تقع على عاتقنا جميعاً حكومةً وشعباً لأن معظم خلافاتنا تندرج تحت لافتة حروب أهلية يعمل بعضنا على إشعالها، ويهييء الأجواء لفتن أجنبية تقع فيها بلادنا ثم نطلب النجدة منهم. من حقنا ومن واجبنا أن نراجع مسيرتنا، وأن نبحث عن أسباب القصور داخلنا، بشرط أن نحتفظ بوحدتنا الوطنية فوق أي خلاف، حتى نتجنب غبار المعارك الجدلية التي يمكن أن تعطل مسيرة الحاضر، وتسد طريق المستقبل! ، وليست هناك مسيرة كلها إنجازات بلا أخطاء، وأفضل الأمم هي التي تتحمل بشجاعة عبء معالجة المشاكل من جذورها، كمدخل صحيح لوضع الأساس الصحيح لمواكبة إستحقاقات التقدم والتحديث! الأمم الحية هي التي تملك منهجاً لتواصل الأجيال، وتسليم الرايات بروح الرغبة في البناء على ما تمَّ بناؤه وإستكمال ما ينبغي إستكماله، بدلاً من إضاعة الوقت والجهد في البكاء على اللبن المسكوب. وبالواضح(كده)أننا بحاجة إلى صحوة ذاتية داخل كل قطر طالته نيران الفتنة، ليس فقط بهدف سرعة إطفائها وإحتواء مخاطرها.. إنما من أجل حماية بقية أقطار الأمة من خطر انتقال النيران إليها خصوصاً أن سرعة الريح المواتية للفتنة باتت شديدة وعاتية لحسابات وإعتبارات وأهداف ومقاصد تتوزع بين عملاء الداخل وأصحاب مصالح في الخارج! إننا في السودان إزاء وضع جديد ومتغيرات جديدة تسمح بولادة قوي سياسية واقتصادية وإجتماعية كل يوم، وهذه القوى لا تمارس حق النمو فقط، إنما تسعى لشق طريقها والحصول على فرصتها ونصيبها، بعد أن ارتفع سقف الوعي الوطني الإجتماعي في الشارع السوداني. وعلينا أن نضع في إعتبارنا دائماً أننا جزء من عالم يتغير ويتطور كل يوم بسرعة مذهلة، وإنه ليس بمقدورنا أن نغلق دونه أبوابنا؛ لأن قوة التغيير أشد من أية سدود انعزالية، وأنها قادرة على النفاذ إلينا والتأثير فينا وفي غيرنا! وليت شعبي يدرك أن المستقبل الآمن يرتهن في المقام الأول بمدى إدراكهم بأهمية تشجيع خطوات المسارعة، بإقامة نظام عالمي جديد يخدم كل متطلبات التنمية، وأن يسهموا عن اقتناع في توفير التمويل اللازم لإحداث نهضة بحثية علمية في السودان، فسوف يكونوا هم أول المستفيدين منها. ولعلنا نتفق جميعاً أن السودان يستحق أن يكون علمياً أكثر مما هو عليه الآن، إستناداً لتراثنا الحضاري وقياساً على تجارب الآخرين الذين لايزيدون عنا كفاءة أو موهبة أو إمكانات، ثم إن أي حديث عن الطفرة المطلوبة التي نحلم بها جميعاً ينبغى التعامل معها رسمياً وشعبياً، بروح الوعي، والسباق في المقدرة على تنظيم القاعدة الإدارية السليمة التي تخدم متطلبات النظام العلمي المنشود، ولا تكون عبئاً عليه. ومن حسن حظنا أن في السودان قاعدة علمية وبنية أساسية، تسمح بتشييد هذا النظام العلمي الذي ينبغي أن يكون مدخل الدولة كلها، لوضع صياغة يمكن تطبيقها علي أرض الواقع، بشأن ثقافة العمل والأداء المؤسسي، الذي تقوم به على أساس إحترام المواعيد والدقة في الأداء، ونبذ كل سلوكيات الارتجال والفهلوة.. آن الأوان لكي يحتشد الشعب السوداني وبشكل عقلاني لا يستفز أحداً من أجل بناء جهد سياسي، وقاعدة اقتصادية يمثلان معاً رسالة لكل من يعنيهم الأمر، بأننا ننشد السلام ونخاصم الحروب والفوضى، وفي الوقت ذاته نحذر من استحالة تحقيق أوهام الآخرين، في أن ينعموا بأمن بدون أمن لنا أو أن يحصدوا رخاء بدون رخاء لنا والأمم العظيمة هي التي تستطيع أن تبني جسوراً من الحوار والتواصل وأن تتجنب الطرق المليئة بأشواك الشقاق والتنابذ لأن ذلك هو المدخل الصحيح لبناء قدرة الأمم على قهر كل مشاكلها وأزماتها، تحت رايات الحوار والمصارحة، وفي ظل أجواء التسامح التي لا تعرف تحريضاً ولا تربصاً أعتقد أنه ليس بمقدوري أو بمقدور أحد غيري أن يزعم أنه يملك حلولاً سحرية وعاجلة، لمواجهة معظم المشاكل والأزمات التي داهمتنا ولكن مع ذلك يمكن القول، إن المفتاح الذي نملكه ولا يكلفنا شيئاً هو العمل والانضباط. وخلاصة القول نحن من نصنع سعادتنا أو تعاستنا بأيدينا، لأن المسألة تتوقف علي ما بداخل المرء من خصال القناعة والرضا بما قسم الله عند البعض، وخصال الطمع والجشع والطموح غير المشروع عند البعض الآخر والسعداء في هذه الدنيا هم أقدر الناس على معرفة أنفسهم أولاً، بدلاً من انشغالهم بالتنقيب والتفتيش في عيوب وأخطاء الآخرين.