والله الفلوس حلوة، ولا أظن أن هناك عاقلا واحدا، لا يهيم بها حبا وعشقا وتقديرا ! قبل يومين دخلت أحد البنوك، فوجدت القوم منهمكين في العد .. عد أطنان من الجنيهات ! بصراحة .. تملكتني رغبة الفزعة .. ولو سمحوا لي، لقمت بتأجيل كل أموري، والمساعدة الفعالة في العد، ابتهاجا بهذه الأكوام المكومة .. من حبيبنا الغالي .. الجنيه. والفزعة، بالمناسبة، سلوك فطري وتلقائي عند السودانيين، فتستطيع وبكل بساطة، أن تطلب من أي عابرين في الشارع أن يساعدوا في (دفر) عربيتك ذات البطارية المنهارة، فتجد السواعد وقد تولت المهمة بأسرع مما كنت تتصور، دون انتظار لشكر أو مكافأة. صحيح أن هناك صورا سالبة، لكن الصورة العامة إيجابية، ويكفي أن تقول وسط الناس (حرامي)، فيتدافع القوم للقبض على اللص التعيس، والذي لم تمهله الظروف للتمتع بغنيمته المنشولة !! تمنيت أن يطلب مني موظفو البنك الفزعة في عد القروش، فهي مهمة حبيبة للنفس. لكنهم، لم يفعلوا، فلم أملك سوى التمتع بالنظر لتلال الورق النقدي، وهي متعة سحرية تنعش التركيز، وتعيد التوازن النفسي للسائرين بدروب المعاناة !! موظف يعمل محاسبا بإحدى الصرافات، فاجأني برأي مضاد، إذ قال إن أكثر ما يشقيه هو عد الفلوس ! فهذه الفلوس كما قال مسكونة بشياطين الأخطاء، وعفاريت الأخطار. فرغم أنه يعدها جنيها جنيها بالمكينة المتخصصة في العد، ثم يقوم بمراجعة العد يدويا، فكثيرا ما تحدث الفروقات، وكثيرا ما يتم دفع هذه الفروقات من راتبه الشحيح الذي ينتظره نهاية كل شهر! والفلوس ملوثة (يواصل صاحبنا)، فالله وحده يعلم ما تحمله الأيادي التي تداولت هذه النقود من آفات، ولسوء الحظ لا يمكن غسل هذه الجنيهات قبل عدها، فما يقوله الاقتصاديون والأمنيون عن غسيل الأموال مجرد استعارة، يقصدون بها أمورا أخرى لا تشمل صابون البودرة والطشت ! ويختم المحاسب شكواه بالقول : فوق كل ذلك .. تصور أن تكون كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ، والماء فوق ظهورها محمول (!!) ولم يفصح، ولم أحس بحاجة لإفصاحه ! معاناة صاحبنا محل تقدير، لكنها ليست بالقوة التي تؤثر بقليل أو كثير في القناعة العامة، وهي أن الفلوس متعة، إن حصلنا عليها، أو اكتفينا بمجرد الفرجة على محاسنها، تماما كما يفعل الكثيرون، وهم يجلسون على مقاعد المقدمة، في مسابقات ملكات الجمال، يكتفون بالمشاهدة، ما دام ذلك هو أقصى ما يمكن أن يتاح !! الفلوس حلوة .. ولو فاتك الميري، فتمرغ في ترابه ، قبل اختفاء التراب، وقبل تحوله إلى (دلجة)!!