انتزعت إيران مساء أمس الأول انتصاراً دبلوماسياً دولياً نظيفاً في مواجهة غرمائها الغربيين، وتمكنت ببراعة يحسدها عليها أمهر الحواة من قلب صفحة اتفاقية فيينا لتبادل الوقود النووي التي كانت هي آخر إبداعات مجموعة ال«5+1» في سبيل تقييد النشاط النووي الإيراني وتجميد جهودها في مجال التخصيب، مع رفع عصا العقوبات الدولية الصارمة في حال عدم الموافقة. فهي لم تقل إنني أرفض هذه الاتفاقية جملة وتفصيلاً، لكنها قالت «نعم.. ولكن انتظروني» وإذا بها تقلب صفحة الاتفاقية وتكتب على ظهرها ما تريد من ضمانات وما ترغب فيه من تأمين لحقوقها وحقوق الآخرين في الحصول على تكنولوجيا الاستخدامات السلمية للطاقة النووية، مثلما هو حق «مكتسب» للدول الكبرى التي لا تزال تحتفظ بترسانات حربية نووية وتستخدم اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية ووكالة الطاقة الذرية لمساعيها في منع الآخرين من الحصول على هذه الميزة المهمة في موازين القوى ودبلوماسية الردع المتبادل. بين يديَّ نص الإعلان ذي النقاط العشر الصادر من طهران بعد توقيعه من قبل الرئيسين الإيراني أحمدي نجاد والبرازيلي لولا داسيلفا ورئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، بيان مكتوب على الصفحة الأخرى من اتفاقية فيينا، يستجيب لها، ولكنه يعدلها ويحولها إلى مجموعة مكاسب لإيران عوضاً عن أن تكون سيفاً مسلطاً على رأسها، فمن خلال ما بات يعرف في أدبيات النزاعات الدولية ب «سياسية حافة الهاوية»، سبق الإعلان وعلى مدى شهور، في مواجهة التهديدات الأمريكية والإسرائيلية «بضربة جراحية» لإجهاض المشروع النووي الإيراني، مناورات إيرانية في الجو والبحر والبر تؤكد قدرة إيران على إلحاق أذى بليغ بأي مغامرة عسكرية تستهدفها بما في ذلك قطع شريان الطاقة الرئيسي المُغذى للغرب عند مضيق هرمز وتدمير البوارج الحربية الأمريكية المرابطة في الخليج بالزوارق السريعة الفتاكة التي صُممت خصيصاً لهذا الغرض وبالصواريخ القادرة على بلوغ قلب تل أبيب. فجاء الإعلان ليؤكد على قدرة إيران الإضافية في مجال الدبلوماسية الذكية التي تترافق وتتكامل مع الاستعدادات الحربية بإعداد «القوة ورباط الخيل». الإعلان عبارة عن عرض جديد- عرض اللحظة الأخيرة- لإجهاض المخطط الغربي لحصار إيران بأشد وأقسى العقوبات التي تعرف واشنطن كيف تصدرها عبر مجلس الأمن الدولي، لكنها تُفاجأ ببراعة «الولي الإيراني» في سحب السجادة من تحت قدمي «الشيطان الأكبر». الاتفاق الثلاثي الإيراني -التركي - البرازيلي أدخل مجموعة من المفاهيم والإجراءات الجديدة والإضافية على اتفاقية فيينا التي تجرده من أهدافه المتمثلة في تعطيل البرنامج النووي الإيراني - تكتيكياً- لمدة عام ليتمكن الغرب خلاله من الاستعداد للمواجهة المنتظرة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية. فاتفاق نجاد - داسيلفا- أردوغان ، بحسب الإعلان ذي النقاط العشر يؤكد أول ما يؤكد على الالتزام باتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية، مع إشارة ذات مغزى لاحترام «حقوق جميع الدول الأعضاء» ومن بينها إيران في تطوير الأبحاث وتنمية استعمال الطاقة النووية للأغراض السلمية، وكذلك امتلاك دورة الوقود النووي ومن «ضمنها التخصيب» وتلك هي أول ضربة يوجهها الإعلان للأجندة الخفية التي أنطوت عليها اتفاقية فيينا التي تطالب بأن توقف طهران جميع أنشطتها النووية وفي مقدمتها تجميد مستوى التخصيب عند نسبة «5.3» في المائة، بل ووقف هذه العملية برمتها في النهاية، بل يُؤمِّن الإعلان- على العكس من اتفاقية فيينا- على استمرار طهران بأنشطتها النووية على كل المستويات، كبناء المفاعلات وزيادة عدد أجهزة الطرد المركزي، بل والتخصيب حتى بنسبة «20» في المائة. مكسبٌ أساسي آخر حققته طهران تمثل في توسيع دائرة المعنيين بشأن الملف النووي الإيراني بإدخال لاعبين جدد إلى حلبة التفاوض والصراع، ليشمل الوكالة الدولية للطاقة الذرية بجميع أعضائها ومعها تركيا والبرازيل. بينما كانت اتفاقية فيينا تحصر أمر الملف بين طهران و «مجموعة فيينا» أي روسياوالولاياتالمتحدة، مما يتيح لإيران هامشاً أوسع في تحركاتها الدبلوماسية المتصلة ببرنامجها وملفها النووي على الإجمال. الإعلان شدد في أربع نقاط منه - هي الخامسة والسادسة والسابعة والثامنة- على جملة من الضمانات التي تؤمن لإيران الحصول على اليوارنيوم عالي التخصيب في مقابل إيداع جزء من مخزونها لدى تركيا «كأمانة» إلى حين استلامها الكمية المتفق عليها في الوقت المحدد، فهو ينص على: موافقة إيران على وضع «1200» كيلو غرام من اليوارنيوم المنخفض التخصيب «كوديعة» لدى تركيا، على أن تبقى هذه الكمية في تركيا «ملكاً لإيران» وستقوم إيران بإبلاغ وكالة الطاقة الذرية برسالة مكتوبة وعبر القنوات الرسمية بمضمون الاتفاق في غضون سبعة أيام من توقيعه. ثم بناءً على «الرد الإيجابي» لمجموعة فيينا «الولاياتالمتحدةوروسيا وفرنسا ووكالة الطاقة» والتزامهم بتسليم الكمية الواردة في اتفاقية فيينا والبالغة «1200» كيلو غرام من الوقود النووي يحتاجه مفاعل طهران الطبي، تعرب إيران عن استعدادها لتسليم كمية ال«1200»كيلو غرام من اليورانيوم المنخفض التخصيب إلى تركيا في غضون شهر، وبموجب هذا الاتفاق نفسه، على مجموعة فيينا أن تسلم إيران «1200» كيلو غراماً من الوقود النووي لمفاعل طهران بحد زمني أقصاه عام واحد، وفي حال عدم احترام بنود هذا الإعلان تعيد تركيا سريعاً، وعلى نحو غير مشروط، ال«1200» كيلو غرام إلى إيران بناء على طلبها. هذا مع الترحيب من جانب تركيا والبرازيل بقرار طهران مواصلة الحوار - كما فعلت سابقاً- مع مجموعة ال«5+1» في تركيا حول «الهواجس المشتركة» المبنية على الالتزامات الجماعية وفق النقاط المشتركة لعرضهم. إعلان نجاد - داسيلفا- أردوغان ووجه بترحيب شابته جملة من التحفظات من جانب الولاياتالمتحدة وفرنسا وروسيا على لسان رئيسها مديدييف ، فروبرت غيتس المتحدث باسم البيت الأبيض رحب «شكلياً» بتوجه إيران للتفاوض ، لكنه قال إن واشنطن لن تغير من خططها أو تبطئها من أجل إلزام طهران بتغيير توجهاتها الرامية للحصول على الأسلحة النووية، وهي خطط تبدأ بالمقاطعة الاقتصادية الصارمة ولا تستبعد اللجوء إلى العمل المسلح في نهاية المطاف، كما أشار مسؤولون كبار في البنتاجون أخيراً. أما باريس، وهي الجهة المكلفة بتحضير اليورانيوم في حالته النهائية قبل تسليمه لطهران، فقد قالت إن وكالة الطاقة الذرية هي الجهة الوحيدة المخولة بالتعامل مع إيران وتحديد نواياها ، بينما شكك الرئيس الروسي بشكل لافت في تلك النوايا عندما قال صراحة «لانعرف ما إذا كانت إيران ستستمر في تخصيب اليورانيوم بنفسها، وما فهمته من المسؤولين الإيرانيين أنها ستستمر، وفي هذه الحالة سيستمر القلق» هذا بالرغم أن بلاده تمثل «المقاول الرئيسي» لبناء مفاعل «بوشهر» ومنشأت نووية أخرى. رد الفعل الإسرائيلي كان هو الأكثر حدة على الإعلان، فقد تبجح مسؤول إسرائيلي كبير بالقول: إن إيران «تلاعبت» بتركيا والبرازيل، وكان من السهل عليها استدراج تركيا على هذا النحو، بينما تصرفت البرازيل ببعض السذاجة من دون أدنى شك. ما دفع مستشار الرئيس البرازيلي إلى الرد عليه قائلاً: من حق إسرائيل أن تقول ما تشاء، لكنها المرة الأولى التي توافق فيها طهران على إرسال وقودها النووي إلى دولة أخرى لمبادلته. أما أحمدي نجاد، المنتصر الأكبر في هذه الصفقة الذكية، فقد تحدث بدبلوماسية - غير معهودة- معرباً عن أمله في أن توافق الدول الكبرى على التفاوض «بنزاهة واحترام وعدالة»، مضيفاً أن تجربة «اللقاء الثلاثي» في طهران تظهر أنه إذا استند التعاون إلى الصداقة والاحترام فلن تكون هناك مشكلة.الأيام والأسابيع المقبلة كفيلة بأن تجيب على مدى قدرة حيَّة «الإعلان الثلاثي» على التهام حيات «السحرة الكبار» أم أنه لاتزال لديهم القدرة والمناعة لرد الصاع صاعين.. وما علينا إلا أن ننتظر لنرى.