منذ أن اقترفت «إسرائيل»جريمة الإعتداء على(أسطول الحرية) التي أودت بحياة تسعة ناشطين من الأتراك، ثم راحت تقدّم الأعذار والحجج غير المقنعة، ظنّ الكثيرون بأنّ العلاقات التركية الإسرائيلية سوف تنهار، ولكن يقول مصدر ديبلوماسي عليم إنّ هذه العلاقات كانت في أدنى مستوى لها منذ قيام«إسرائيل» في العام 1948، ثمّ تطوّرت كثيراً مع الوقت، لتعود فتتراجع منذ اتخاذ تركيا لخيار إعادة توجيه سياساتها نحو التركيز على جوارها الجغرافي والمنطقة العربية بصفة خاصة في إطار ما عُرف ب(العثمانية الجديدة)، لتحقيق مصالح إقتصادية وسياسية واستراتيجية بعيدة المدى، إضافة إلى تحسين قدراتها التفاوضية على مساومة الغرب، وذلك بعد أن كانت تسعى جاهدة وتفعل كل ما يمكن فعله لتتحوّل إلى دولة غربية، وتنضم إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، وقد ظلّت المجموعة الأوروبية تماطل لسنوات في طلب انضمام تركيا لعضوية الإتحاد الأوروبي، والى أن اكتشفت متأخرة أنها أمام فجر كاذب، فبدأت تتطلع لإغراءات أمل جديد بالإتجاه شرقا. المعلومات تقول إنّ تركيا شكّلت تاريخياً مع إيران ، زمن الشاه، و«إسرائيل» محوراً إقليمياً تحت القيادة الأميركية تحت تسميات عدّة، وكان الهدف منها هو مناهضة حركة القومية العربية، التي كانت قد شهدت تنامياً ملحوظاً في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، واستوجب ذلك اعترافاً تركياً مبكراً ب«إسرائيل »في العام 1949، أي بعد أشهر قليلة من إعلان الدولةالعبرية ، والتوجّه نحو دعم علاقاتها الاستراتيجية بها، ولاسيما أن أنقرة كانت ترى في ذلك تأكيداً لتوجهها الغربي الذي كرّسه مؤسس تركيا الحديثة كمال أتاتورك، ومدخلاً مهماً لانضمام تركيا لعضوية حلف الأطلنطي، وما كان لذلك، وقتئذ، من أهمية استراتيجية في إطار سياسة احتواء الاتحاد السوفياتي، كما كانت ترى في«إسرائيل» ثقلاً جغرافيا مضاداً للعراق وسورية يمكن الإستناد إليه عند الضرورة، وقد وصلت هذه العلاقات الى ذروتها عام 1997، عندما تمّ التوقيع على اتفاق التعاون الاستراتيجي بين البلدين في المجالين العسكري والأمني، ثم اتفاق الشراكة التركية الإسرائيلية، وتدشين مشروع شرق جنوب الأناضول المعروف باسم (الغاب)، وكانت هذه العلاقات المتنامية ، في تقدير بعض المحللين السياسيين الأتراك ، وليدة استثناء مرحلي، ورغبة متبادلة بين الجانبين في تحقيق منافع ذاتية لهما، حيث كانت « اسرائيل» ترغب في الحصول على دعم تركيا الدائم وغير المشروط لمواقفها وسياساتها في المنطقة. ولكن الى أين تسير العلاقات بين العرب و«إسرائيل»، وبين تركيا و«إسرائيل» بعد كلّ الإعتداءات الإسرائيلية المتواصلة عليهم على مرّ السنوات ،ولا سيما وأنّ «إسرائيل» تجد دائماً غطاء سياسياً ودولياً لها في مجلس الأمن الدولي، وقد توصّلت أخيراً الى إقناع الرأي العام العالمي أنّه بإمكانها إجراء تحقيقاً محايداً في جريمة الاعتداء على (أسطول الحرية)المنظّمة من قبل مسؤوليها العسكريين والسياسيين، وأين أصبحت بالتالي المفاوضات غير المباشرة لعملية السلام الذي بدأت منذ فترة، وماذا عن التوازن الاستراتيجي في المنطقة. أنّ حالة الضعف المتنامي للمنطقة العربية، ووجود حالة من (فراغ القوة)، قد زادا من الطموح الإقليمي لتركيا، فتطلّعت لإقامة تحالفات جديدة في المنطقة بتقاربها مع إيران ،والمرجح أنّ ذلك تمّ بالتنسيق مع واشنطن لاحتواء الموقف الإيراني، وسورية، وضمن هذا السياق استهلت أنقرة توجهاتها الجديدة بخطوات ومواقف تعبّر عن تباعد محسوب مع «إسرائيل»، يُمهد الطريق للتوجه الجديد لتركيا عربياً وإيرانيا، وجاءتها الفرصة المثالية لإجراء هذا التحوّل المخطط، بعد العدوان الإسرائيلي واسع النطاق على قطاع غزة في كانون الثاني يناير من العام 2009، والذي استخدمت فيه«إسرائيل» أسلحة دمار شامل محرّمة دولياً، فاتخذت تركيا موقفاً حازماً من هذا العدوان، وبلغ الرفض التركي له ذروته فيما حدث من صدام علني بين رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان والثعلب الإسرائيلي شيمون بيريز خلال (منتدى دافوس الاقتصادي)30/1/2009 ، حيث انسحب رئيس الوزراء التركي منه متهماً «إسرائيل» علانية بقتل الأطفال في غزة، ما زاد من شعبية حكومة رجب طيب أردوغان في الأوساط العربية والإسلامية، كما أعلن رجب طيب أردوغان عن دعم بلاده لتقرير غولدستون حتى النهاية، وهو ما أزعج «إسرائيل» وجعلها تقلق من احتمالات حدوث متغيرات جيوسياسية تهدد مقومات شراكتها الأمنية الوثيقة مع تركيا. وفي هذا السياق جاء اندفاع تركيا الملحوظ في اتجاه تطوير علاقاتها مع سورية، وقد أمسكت دمشق بدورها بهذه اللحظة، واكتسبت حركتها السياسية قدراً غير متوقع من المرونة في مواجهة الضغوط الإقليمية والدولية، فارتقت بمستوى علاقاتها مع تركيا إلى مستوى التعاون الاستراتيجي، ولم تكن « اسرائيل » راضية عن هذا التطور، ويضيف المصدرأنه بعد كلّ ما حصل أخيراُ، يجري الحديث عن قطع العلاقات الديبلوماسية بين تركيا و«إسرائيل» ولكن، وإن كان هذا الأمر يبدو منطقياً بعد ما تعرّضت له تركيا من قبل«إسرائيل»، من المستبعد أن تطالب أنقرة بذلك، ولاسيماً وأنّ الإجتماع العربي الطارىء الذي عُقد أخيراً في القاهرة بعد الإعتداء على أسطول المساعدات الى غزّة لم يخرج بقرار مماثل، فلماذا تكون تركيا ملكية أكثر من الملك نفسه، والكلّ يعلم حجم التبادل التجاري السرّي والعلني القائم بين كلّ من بعض الدول العربية مثل والأردن ومصر، و«إسرائيل» إضافة الى أنّ تركيا لا تريد أن تجلب المزيد من الضغوطات على «إسرائيل» بسبب الإنقسامات العميقة القائمة في المنطقة، ولكن يبقى لتركيا وحدها الخيار في تقليل أو إنهاء التعاون فيما بينها وبين «إسرائيل». أمّا التهديد الأكبر ل«سرائيل» فلا بد من أن يكون عسكرياً، ولكن من غير المرجّح استخدام القوة ضد «إسرائيل» من القوى الموجودة خارج المنطقة، كما أنّه من غير الممكن تهديدها من داخلها من قبل دول أو أحزاب عربية لأنّ لا أحد يودّ شنّ الحرب عليها في هذه المرحلة بالذات، كذلك من المستبعد فرض عقوبات إقتصادية أو سياسية عليها، والحلفاء موجودون بالقرب منها مهما بلغت جرائمها في قتل الأبرياء، كما أنّ تهديدات«إسرائيل» لن تجدي نفعاً،و لا سيما وأنّ الرأي العام بات يعلم أنّ الأجيال الأولى من الإسرائيليين قد عاشت تحت تهديد للهزيمة العسكرية التقليدية من قبل الدول المجاورة، كما أنّ الأجيال الأخيرة لا تزال تواجه التهديدات نفسها، وقد خاضت الحرب مع حزب الله في لبنان في العام 2006 وخرجت منها منهزمة، وقد بحثت لسنوات مضت عن أسباب فشلها، ولا تزال تتدرّب وتجري مناوراتها العسكرية في سبيل أن تعيد العنفوان لجيشها المندحر، ومن هنا يبدو أنّ لا شيء يهدّد «إسرائيل »حالياً بشكل فوري، ولا حتى تداعيات هجومها الوحشي على قافلة المساعدات الى قطاع غزّة، ولا سيما وأنّها تعمل في سياق استراتيجية مفيدة لإنقاذ علاقاتها الديبلوماسية والإقتصادية في المنطقة، ولاسيما وأنّها تعلم أنّ أعداءها منقسمون فيما بينهم، وأنّ أي تحالف فعّال ضدّها غير قائم حالياً، كما أنّه ليس من المرجّح أن ينشأ في المستقبل القريب. في المقابل، من الصعب للغاية ترجمة العداء المتنامي للسياسة الإسرائيلية في أوروبا ومناطق أخرى في العالم، في حين أنّ الإسرائيليين أنفسهم يرون عواقب الإجراءات التي تثير العداء تجاهها من قبل العرب في الخارج وسواهم، ولعلّ هذا العداء لا يقلّ خطورة عن فقدان سيطرتها على قطاع غزة ،ولا سيما وأنّ المجتمع الدولي والرأي العام العالمي يطالبانها بفكّ الحصار عن غزّة، إذ لا يمكنها الإستمرار بتجويع المواطنين فيه، فالقطاع يصبح أكثر استقلالاً، كلما زاد الضغط على «إسرائيل»، والقمع الذي تمارسه عليه يصبح أكثر أمناً بالنسبة للمحاصرين، ويشدّد على أنّ الاسرائيليين لا يرون العداء العالمي تجاه «إسرائيل»ترجمةً لتهديد مجدي،لأنّ الواقع العربي يلغي ذلك، فالطائرات المصرية لم تعمد يوماً الى تهديد السفن التابعة للبحرية الإسرائيلية، ولم توجّه أي سفينة حربية سورية أي إعتراض للسفن الإسرائيلية، ولهذا تمضي«إسرائيل» باعتداءاتها من دون أن تجد تحدٍّ فعلي أو تهديد جدّي لقوّاتها البحرية أو البرية وحتى الجوية، بل تجد أنّه لديها مطلق الحرية عسكرياً في المنطقة ولهذا تعدّت على (أسطول الحرية) على الرغم من أنّها تعلم أنّه ليس أسطولاً عسكرياً يهدّد سلامة وأمن شواطئها كما ادعت. لقد ولّدت أعمال« إسرائيل» تحوّلات في الرأي العام وفي الديبلوماسية إقليمياً وعالميا. ويراهن الإسرائيليون على أنّ مثل هذه الإجراءات لن تنشىء تحوّلاً طويل الأجل في الموقف الاستراتيجي للعالم العربي تجاهها، ولا في موقف تركيا، ولكن يبدو أنّه من الصعب جدّاً التفاوض في المستقبل القريب مع مجموعة شاملة تفتقد كلّ ما يقترب من الصوت الموحّد. ومن الجدير القول إنّ الوحدة الوطنية بين الفلسطينيين ليست هي وحدها المطلوبة، بل التحوّل في السياسة المصرية ،نحو العودة الى الموقف الذي عقد قبل كامب ديفيد، ولا سيما وأنّ مصر شكّلت سابقاً مركز الثقل في العالم العربي، والقوة الدافعة وراء وحدة الصف العربي التي كانت «إسرائيل» تخشاها قبل أي شيء آخر، ولكنّها تحوّلت تحت حكم الرئيس حسني مبارك عن موقفها في مواجهة«إسرائيل» الى جانب الفلسطينيين، ما أضعف بالتالي قدرتها العسكرية ، الى جانب السياستين السورية والتركية التي من شأنها تشكيل تحالف قوي ينشىء توازن قوى في المنطقة، ما يضغط على «إسرائيل» ولا يجعلها بعد اليوم مهيمنة وتتصرّف بحرية مطلقة. ولاشك إنّ الخطر الذي تشكّله الإنتفاضة وحركة حماس ، فضلاً عن عمليات الإستشهاديين، وكذلك الصواريخ التي تُطلق من لبنان، أو من قطاع غزّة، أو تهديدات حزب الله هو خطر حقيقي يخيف«إسرائيل»، غير أنّه لا يهدّد بقاءها على طريقة التهديد في حال أتاها من مصر أو سورية لمرة واحدة فقط.