لم نعد نطق صبراً على خبر حسن عن السودان. فقد تمكن منا الاعتقاد أن لا شيء يحدث فيه سوى الأذى حتى أصمينا آذاننا من جهة سماع عبارة طيبة عنه. ونستغرب تطاول المحن فيه ونحن نزدريه ونعتبره نار الله الموقدة استبقنا إليها في الدنيا. وهذا الاعتقاد في كساد البلد قديم حتى لا يظن أحد أنه من فعائل «أم الأمور»: الإنقاذ. عبرت عن صورة منه في الستينات في قصتي القصيرة (التي تمسرحت) «حار جاف مترامي الأطراف». ففيها شابان برجوازيان صغيران في مقهى المحطة الوسطى ينفثان أبخرة ضيقهما الجوفية بالسودان. ثم قال واحدهما إن السودان حفرة فقال الآخر ولأنه يقع في أفريقيا فهو حفرة في حفرة. ثم زاد الأول بأنه يقع في العالم كذلك، فقال الثاني ولذا فهو حفرة في حفرة في حفرة. واتفقا أن الحل لسقمهما هو قيام الحرب العالمية الثالثة. وبالمقابل كان يجري بإزائهما مشهد مختلف جمع عاملاً ومزارعاً بلديات. التقيا مصادفة عند المحطة الوسطى وتعرف واحدهما على الآخر ثم دخلا في دورة سلام طويل أسقم الشابين فأسماه «السلام العالمي». ثم انتقل العامل والمزارع في حديث طويل عن قطعة أرض عليها نزاع بين أهلهما والعمدة صمما فيه ألا يتركاه ينعم بها أبداً. وكان السقم قد بلغ بالشابين أشده فبارحا المقهى إلى خمارة البلد. وغير خاف أنني أصلت السقم من السودان في فئة البرجوازية الصغيرة التي أذاعته فشاع فصار ثقافة للجميع. أجد تفاؤلي بالسودان صادماً لمن أناقشهم. فهم لا يصدقون أن له ميزة أو حقيقة غير الكساد والبوار. قلت لأحدهم إن السودانيين المدنيين خلافاً لبلاد أفريقية وغيرها لم يحتاجوا إلى الصدام ككتل إثنية أو عرقية أو دينية أهلية بصورة مباشرة. وهذا ديدن بعض البلدان مثل التوتسي والهوتو في رواندا وبروندي واللو والكيكيو في كينيا والعرب والافارقة في زنجبار والأفارقة وعصبة الزنوج الأمريكيين في ليبريا والمسيحيين والمسلمين في نيجريا وساحل العاج أو التوسا والزولو في جنوب أفريقيا وحتى اللو نوير والمورلي في جنوب السودان. كان الجيش عندنا يحارب حرباً لم يكن ثمة اتفاقاً عليها حتى بين من قالوا إنه يحارب باسمهم وهم الشماليون. وكانت الدولة تستصحب في حروبها بعض المدنيين مثل الجنجويد في وظيفة عسكرية، لا أهلية، ولذا سمى علماء السياسة مثل هذا «التجنيد» للمدنيين ب «قمع الثورة بأرخص السبل». أما المدنيون أنفسهم فبقوا بعيداً عن الحرب برغم اكتظاظ مدن الشمال بالجنوبيين والدارفوريين الفارين من مناطق النزاع وقضاياه. بل ، وللغرابة، كان الذي تحرف للقتال في الحالات النادرة التي تواجه المدنيون وجهاً لوجه هم الجنوبيون في 1964 في الأحد الدامي وبعد مقتل العقيد قرنق في 2005. وكنت كلما كيفت حجتي ولحنت بها لمحدثي يصر على أنه طالما كان الجيش الشمالي يحارب فالشماليون ملومون. فهم حاربوا بحرب الجيش. ولم أفلح في سوقه ليرى الفرق بين أن يتواجه مدنيون بينهم خلاف تدير شأنه الدولة وأن يتواجه مدنيون لا يحتاجون للدولة للقتال دونه. ولما قنعت منه قلت هذا رجل ألحد بالسودان وكفى. ولما لم يعد السودان وطناً (بل مُقدمنا من الآخرة أي قطعة من النار) قل من يحتفل به. صار «دار أبوك» الشهيرة يتنافس الحاكمون وكثير من المعارضين في لهط ما يليهم. وما نسمع عن خصومة المعارضين حول أموال منظمات المحتاجين وسوء إدارتها إلا مظهراً من شلعوها البرجوازية الصغيرة. أما الحاكمون فما أظن تشليعهم العين تدورلو دليل.