يبدو التاريخ السوداني للسودانيين موضوع شديد الغموض ، يرتبط بأفكار مسبقة عامة ، وتصورات متضخمة ، وفي أحايين كثيرة لا نعلم شيئا عن مراحل تاريخية كاملة حرفياً .. فلا تستطيع الإجابة عن ماهية (الواوات) ، أو ماهو (سبوي مكر) ، أو من هو (فينون) !! كأن ذلك تاريخ بلد أخرى ! .. وأهمية هذه المعرفة ، وذاك الجهل ، تأتي من أن مكان منفصل الجذور ، سيكون مضطرب نفسياً ومجتمعياً .. ولن يكون فخور ، لأنك لا يمكن أن تتحرك من الفراغ .. وكذلك لن يتعلم ، لأن في التاريخ كل المستقبل ! ، لكل ذلك كانت هذه السلسلة من الحوارات ، في محاولة لردم الهوة بين إرثنا الحضاري ، وحاضرنا المعاش .. ومحاورتنا هي البروفيسورة ( سامية بشير دفع الله) حصلت علي بكالريوس الآداب في جامعة الخرطوم العام 1972 م ، ثم على شهادة أخرى من جامعة (درم) بانجلترا ، والدكتوراة من جامعة كمبردج العام 1982 .. ودّرست بجامعة الخرطوم ، والسعودية ، ورأست قسم التوثيق بجامعة السودان المفتوحة ، والآن بجامعة الخرطوم .. نشرت العديد من الأبحاث والكتب ، وشاركت في العديد من المؤتمرات .. وهو شرف لنا أن تمنحنا الفرصة علي التعاطي مع تاريخنا من خلال معرفتها المتخصصة .. بدءاً .. ما هي الحضارة ، وما المقصود بهذا المصطلح ؟ هذه بداية صحيحة ، الحضارة يقصد بها مرحلة مبكرة من مراحل التطور في حياة البشرية ، وصلها الإنسان بتفاعلة مع البيئة من حوله بجد وذكاء ، فتمكن من تحقيق إنجازات في مختلف المجالات ، سواء مادية ، أو فكرية ، أو تنظيمية .. ما هي أهم الإنجازات المبكرة ، وما حظ السودان فيها؟ أهم الإنجازات المبكرة هي الزراعة ، وتأليف الحيوان ، وصناعة الفخار ، لأنها مكنت الإنسان من السيطرة علي حياتة ، وشجعته علي الاستقرار .. وكان الاعتقاد أن هذا الإنجاز بدأ في الشرق الأدنى ، والشرق الأوسط؛ أي مناطق الصين ، الهند ، باكستان ، العراق ، الشام ، ووادي النيل .. لكن منذ الأربعينات تأكد للعالم ريادة السودان في صناعة الفخار ، ربما علي مستوى عالمي .. أما الرعي ومنذ حوالي 7500 ق م ، عرف السودان الرعي حول كرمة الحالية .. هذا علي مستوى الفخار ، والرعي ، وماذا عن الزراعة ؟ الزراعة محل جدل وسط العلماء ، لأن بعض العلماء يربط معرفة الزراعة بوجود المنجل ، والطورية (تصنع من الحجر والعظم) وبالتالي الحبوب التي وجدت في سودان تلك المراحل اعتبروها حبوباً خلوية ، أي من النوع البري ! .. وفريق آخر يرى أن ذلك ليس شرطاً ، لأنه حتى اليوم في غرب السودان ثمة قبائل تحصد باليد مباشرة .. وعلى كل عرف السودانيون الحبوب ، وظهر ذلك جلياً في وجود بقايا ذرة ودخن مطبوعة علي الفخار ، وكذلك ما نسمية ب (المراحيك) عليه آثار ذرة .. لكن الراجح أن أهلنا في (الكدرو) ، (أم ضريوة) ، و(الزاكياب) زرعوا الذرة ، الدخن ، والشعير ، وكذلك الخضروات.. مواكبين اكتشاف الزراعة .. قبل هذه المرحلة التي تعود فقط الي ثمانية لعشرة آلاف سنة مضت ، كيف كان حال الإنسان السوداني ؟ أحوال البشر كانت واحدة تقريباً ، وهي العصور الحجرية القديمة والوسيطة ، كان الانسان يصنع أدواته من الحجر ، ولاحقاً من العظم ، و جزوع الشجر ، والأحجار الملونة .. واعتمد في قوته علي لحوم الحيوانات التي يصطادها ، وعلى السمك النهري ، ومنتجات الانهار الاخرى ، وجمع الثمار والنباتات الخلوية .. ومن حيث التنظيم الاجتماعي لم يعرف منه شيئ ، ولا حتى الزواج ، وتكوين الأسرة ! .. قبل الحديث عن بدء التمدن ، حدثينا عن فكرة حدود السودان القديم شمالاً ، لنفرز تطور الحضارة لدينا؟ منذ فجر التاريخ كانت حدود السودان مع مصر قد تم تحديدها في أسوان شمال الشلال الاول ، وطالما كانت الوثائق المصرية تشير لسكان المنطقة جنوبأسوان بأسماء تختلف عن الاسم المصري ، مثل ( تا سيتي ، تا نحسو ، كوش).. وليس سياسياً فحسب بل من حيث المساهمة المادية والاعراق كانت منطقة جنوبأسوان تختلف عن شمالها .. من هنا حدثينا عن أول حضارة سودانية منظمة؟ هي حضارة ( تا سيتي ) واستمرت من حوالي 3700 ق م حتى 2800 ق م ، وتجد بعض المصادر تسميها حضارة المجموعة (أ) ! ، وهي تسمية مكتشفها ، الذي سماها هذا الاسم لسبب مأ ، وهو ما اشتهر في الكتب ، لكني أفضل اسم ( تا سيتي) وتعني بلاد القوس في الحروف المصرية القديمة ، وانتشرت بين الشلال الاول ، والثاني ، وانضمت لها مناطق اخرى جنوبها لاحقاً .. وماذا حققت (تا سيتجي) من إنجازات حضارية؟ أهم الإنجازات هي في مجال ريادة التنظيم السياسي ، حيث ينسب لهذا الشعب إنشاء أول مملكة موحدة في وادي النيل ، وفي أفريقيا قاطبة .. وما دليل ذلك؟ الأدلة جاءت من موقع أثري يعود للمرحلة في منطقة تسمى (قسطل وبلانة) ، لبعثة أثرية من جامعة شيكاغو ، بقيادة آثارى اسمه (كيث سيسيل) في العام 1964 ، اكتشف 33 مقبرة وضح أنها ملكية ، وانها ضمت 12 جيلا .. وعلى إثر ذلك كتب عالم آثار اسمه ( بروس ويليامز) مقالاً مثيراً بعنوان ( فراعنة النوبة المفقودون ) ساق فيه الادلة التي أقنعته تماماً بأن مملكة القسطل قد بسطت نفوذها علي كل إقليم النوبة السفلي ، وهي بذلك تعتبر أول ملكية في أفريقيا بما في ذلك مصر العليا التي كانت آنذاك ( حوالي سنة 3300 ق م) تعيش ظروفاً من الانقسام والتشرذم .. وماذا عن المجالات الأخرى كالفنون والعمارة والاقتصاد ؟ بالتأكيد حققوا طفرات في المجال ، مثلاً صناعة الخزف ، وتخطى ذلك الأواني للاستخدام اليومي ، لصالح ان تكون (تحف) للزينة ، وكذلك كقرابين للموتى ، وشهد العلماء بجمال فخار (تا سيتي) .. وكذلك في هذا العهد شهد السودان بناء أول منازل مبنية من الحجر .. كما وجد في موقع اسمه سيالة (أقدم) معبد مقطوع في وادي النيل ، كما دلت الاثار علي أحوال اقتصادية جيدة ، وعثروا علي أدوات مثل الازاميل والفؤوس من النحاس هي أقدم المعثورات المعدنية في السودان ، ربما تكون مستوردة .. ما هو مصدر ثراء هذه المرحلة ؟ يبدو أن اقتصادهم قام علي ثلاثة ركائز ، هي تربية الماشية ، زراعة كل الأراضي الصالحة للزراعة ، وقد كانت محدودة المساحة ، ثم نقل التجارة بين أواسط السودان ، ومصر .. وربما فرضوا رسوما وضرائب ورسوم عالية علي التجارة التي تعبر أراضيهم ، بعض العلماء يعتقدون أنهم ربما اكتشفوا مناجم الذهب التي يزخر بها الاقليم وباعوها لمصر ، وهناك احتمال معرفتهم بمناجم النحاس .. وهل عرفوا الطبقات؟ عرفوا الطبقات ، وظهر ذلك في التباين في المنازل ، بين حجرية ، واخرى مبنية من القش (قطاطي ورواكيب) .. وكذلك في القبور ما بين فخمة ، وواسعة نسبياً ، وبين أخرى حفر بسيطة .. كذلك عرفوا الملابس من الكتان .. ووجدوا معرفتهم بمفاهيم الحياة بعد الموت ، في مقتنيات القبور .. وعرفوا الاتصال الخارجي وظهر ذلك في وجود مواد مستوردة من البحر المتوسط في قبور بعض نبلائهم .. وكيف كانت نهاية هذه المملكة العظيمة ؟ لقد كانت نهايتها مفاجئة علي كل حال ، وحدث ذلك تقريباً خلال حكم الاسرة المصرية الاولى ، لذلك يعتقد ان أسباب زوالها ارتبط بحدث توحيد مصر .. ويقترح العلماء سببين ، الاول اقتصادي يتمثل بفقدان ملوك ( تا سيتي) الموارد التي كانوا يجنونها من العمل في نقل التجارة ، لأن ملوك الاسرة المصرية الاولى احتكروا العمل في التجارة ، وحرموا كل الوسطاء .. السبب الثاني سياسي عسكري ويتمثل في سياسة ملوك الاسرة الاولى الاستغلالية والعدائية تجاة جيرانهم في ( تا سيتي) ، والنتيجة فرار السكان وتشتتهم في الاتجاهات.. وهو ما خلص لنهاية ( تا سيتي) وبداية مرحلة جديدة ..