لم يرصد التاريخ إلا حالات نادرة تحول فيها أطباء إلي رؤساء, وفي عالمنا العربي الآن نقف أمام حالتين, كل منهما يقف تماما علي طرفي النقيض, احدهما طبيب عيون, ترفض عيناه رؤية الحقيقة, والآخر طبيب أمراض نفسية وعصبية. دفعه تخصصه إلي الانحياز الكامل والمطلق للإنسان وحقوقه, الطبيبان سابقا, المنصف المرزوقي, وبشار الأسد, كل منهما تجسيدا استثنائيا لما يمكن أن يصل إليه طبيب. المرزوقي الأكاديمي التونسي, الذي درس الطب بجامعة ستراسبورج ونال درجة الدكتوراة من جامعة السوربون بفرنسا, والذي عمل في تونس كأستاذ محاضر في كلية الطب بجامعة سوسة, دفعته دراسته لأغوار النفس البشرية, إلي الإيمان المطلق بحق الإنسان في أن يحيا حياة كريمة, ورث عن والده المناضل ضد الاستعمار الفرنسي, الروح النضالية الوطنية واعتنق مبادئ القومية العربية وطمح في تحسين الأوضاع المتردية التي يواجها كل عربي وتكاد أن تنتقص من إنسانيته, فكان أن التحق بالعمل الحقوقي وانضم إلي الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان, حتي أصبح رئيسا لها, في خطوة مهدت لمشواره السياسي الشائك, سرعان ما تحول إلي احد الأيقونات التونسية الأصيلة في عالم السياسة, فكان الاصطدام مع النظام التونسي الديكتاتوري, الذي استخدم معه سياسات الترهيب والاعتقالات, والتي دفعت الزعيم الأفريقي الأبرز نيلسون مانديلا للتدخل والمطالبة بالإفراج عنه إضافة إلي عدد كبير من المنظمات الحقوقية, إلا انه لم يتوقف عن معارضته لنظام بن علي واستمرت سلسلة الملاحقات الأمنية التي أجبرته في النهاية إلي الهجرة قسرا إلي فرنسا. في فرنسا, المنفي الاختياري, واصل المرزوقي نضاله في معارضه نظام بن علي, مؤمنا بشكل أساسي بقدرة الشباب التونسي, علي كسر أغلال الصمت, وقدرة الشعب التونسي عموما علي الانفجار في وجه النظام للحصول علي حرياته الأساسية, وهناك نشر كتاب يوم تفتحت الزهور في الصحراء عام2009 وهو الكتاب الذي تنبأ بالثورة التونسية وسقوط نظام بن علي وجميع النظم الاستبدادية في العالم العربي, حتي كانت الثورة, التي وصفها بأنها قدر الشعوب الحية, ثورة عارمة أكدت له أن نضاله لم يذهب سدي, عاد المرزوقي أخيرا في18 يناير2011 إلي وطنه مرة أخري, ليتولي منصب أمين عام حزب المؤتمر من اجل الجمهورية, حيث استمر في التعبير عن أفكاره الإصلاحية ودعي الفرقاء السياسيين إلي توحيد جهودهم من اجل تونسالجديدة وإنجاح المرحلة الانتقالية, حتي انتخبه المجلس الوطني التأسيسي بالإجماع رئيسا للجمهورية بدعم من حزب النهضة الإسلامي, ليصبح خامس رئيس لتونس منذ استقلالها مارس1956, وأول رئيس يتم انتخابه ديمقراطيا وشعبيا في أكتوبر الماضي. علي طرف النقيض تماما, نجد طبيب العيون الشاب, بشار الأسد, الذي نشأ في جلباب أبيه الدكتاتور الراحل حافظ الأسد, درس طب العيون في جامعة دمشق ثم تدرب علي جراحة العيون في المستشفي العسكري بدمشق وفي عام1992 توجه إلي لندن لاستكمال دراسته, الشاب الذي لم يكن يميزه في ظل وجود أخيه الأكبر والمرشح لخلافة والده, باسل الأسد, سوي خجله الشديد, وعزوفه عن السياسة, إضافة إلي وصفه بأنه شخص معسول الكلام, إلا أن جاء الحادث الذي أودي بحياة شقيقه1994, تغيرت حياته رأسا علي عقب, تم استدعاءه من لندن وكان لابد من تجهيزه فورا للخلافة, ودفعه قسرا إلي دراسة العلوم العسكرية, وعندما توفي الأب في يونيو2000, لم تمر ساعات حتي أصبح علي الطبيب الذي اقسم قسم أبقرط يوم تخرجه, أن يمحو حياته السابقة تماما ويصبح رئيسا. منذ أن أصبح بشار رئيسا, وقائدا عاما للقوات المسلحة,في ظل ظروف معقدة تمر بها سوريا, الجولان المحتل وتواجد الجيش السوري في لبنان وصراعات مع الولاياتالمتحدة وموقف معقد تجاه العراق ثم اتهام باغتيال الحريري, وسط جميع هذه التعقيدات, كان علي طبيب العيون, أن يتجاهل تماما ما تراه عيناه, أو حتي ما تراه أعين شعبه, حاول أن يجد توافقا ما بين الإصلاح والديكتاتورية, لكنه بالطبع لم يوفق, أحبط الشعب الذي توقع منه الكثير, الآن يوصف الطبيب السابق من قبل الكثير من المحللين الغربيين بأنه يحيا في عالمه الافتراضي الخاص, حيث بالنسبة له جموع الشعب الثائر هم إرهابيون مسلحون تدعمهم جهات أجنبية, في حين يظل موقفه تجاه قتل أكثر من عشرة آلاف سوري منذ اندلاع الانتفاضة السورية حتي الآن من أكثر المواقف غموضا علي الساحة السياسية الدولية, ويظل الطبيب الذي ذبح شعبه لغزا لا يستطيع احد حل طلاسمه. {}{