ليته كان بإمكاني أن اصطحب معي امس الأول كل المجتمع السوداني رجاله ونساءه شبابه وشاباته وحتى شيبه وأطفاله إلى دار رعاية الاطفال مجهولي الأبوين بالسجانة ليروا بأعينهم كيف أن الخطايا والغلطات والانفلات وفك الحبل على الغارب يمكن أن يكون كائناً يمشي على قدمين معاناته هي أسوا واكبر من معاناة المجرمين الذين تسببوا في وجوده ليظل طوال عمره بدون هوية ودون ارتباط بأحد تلاحقه النظرات والهمسات دون ذنب جناه سوى أنه ثمرة حرام لعلاقة محرمة هي نتاج نزوة أو هفوة أو لحظة صداقة غريبة ومرفوضة مع الشيطان .. وسبب زيارتي بالأمس لدار الاطفال مجهولي الأبوين لم تكن بمبادرة مني إذ أنني أعترف اني كغيري من كثيرين هم داخل دائرة العمل العام نقصر تجاه قضايا كثيرة هي من صلب هذا المجتمع تؤثر فيه بدرجة عالية لكننا نظل نحتل مقاعد المتفرجين أو ربما اننا ننظر إلى هذه المشاكل من ابراج عالية فنراها صغيرة واقل من أن تشاهد بالعين المجردة لكنها في الواقع هي بحجم الجبال وربما أكبر. نعم ذهبت إلى دار السجانة بدعوة من الفنان الشاب شكر الله عزالدين لتدشين عمل فني بعنوان (مأساة طفل) اختار له المكان بذكاء كبير ليكون الحدث معروضاً على أرض الواقع حتى لا نستغرق وقتاً في فهمه أو نقول والله الموضوع ما بستحق يكون مأساة، وشكر الله وهيثم عباس مزودنها حبتين، فالموضوع كبير وخطير بدلالة الغرف المتعددة للدار التي تحوي بين جدرانها ليس مأساة طفل فقط ولكنها مأساة مجتمع وبلد بحاله. ولعل شكر الله اراد بالعمل الفني والدعوة أن يلفت نظر المجتمع إلى شريحة مهمة وضائعة تحتاج بالفعل إلى المساعدة مثل ما نحتاج أن نسمع أن اعدادها تتناقص ليس بفعل (الوفاة بالكوم) خلال الأسبوع جراء الاهمال ومحاولات الإعدام التي تجرى لهم حال تنفسهم همبريب الدنيا ولكننا نحتاج أن نسمع أن اعدادهم تتناقص والمجتمع تنتشر فيه الفضيلة والعفه ونساؤه يزيِّنَّ انفسهن حشمة واحتراما ورجاله هم جميعاً اخوان فاطمة لا ينظرون اليها إلا على أنها بنت القبيلة الما بنداس ليها طرف!! أعتقد أن شكر الله عزالدين بهذا العمل الفني الكبير قد قطع مسافات كبيرة تجاوزها وطواها وهو يغوص في مجتمعه بعمل إنساني كبير ليس الهدف منه أن نذرف الدموع ونبكي على حالة من تناولهم بكلماته لكن الهدف الحقيقي أن نبحث عن أصل المشكلة ونقطع دابرها أو نمنح هؤلاء الصغار في الحياة رعاية وكفالة واعترافاً بالوجود. في كل الأحوال هي بداية اطلق صافرتها الشاب شكر الله عزالدين الذي أشهد له أن صوته واحد من أجمل الاصوات الآن على الساحة الغنائية. ولعل جمال هذا الصوت منح العمل بعداً من الصدق جعل كلماته وموسيقاه تدغدغ المشاعر وتجعله ينسكب في الجوف كجرعة دواء ربما ظاهرها ومذاقها مر لكنها تجلب الشفاء والعافية وإن كنت الوم مخرج العمل على أنه لم يغُصْ تماماً في الكلمات ليخرج منها بمشاهد اكثر تأثيراً على المشاهد من تلك الخلفية التي صاحبت العمل وهي لأطفال يلبسون (الترينغ سوت) في كامل اناقتهم وهم يلعبون السلة والتي جعلوا من باحة للحاويات ميداناً لها وكان بالامكان صنع مشاهد اكثر واقعية لأطفال الملاجئ الذين يقتلهم (الاسبرت) ويأكلون من الكوش ويمتهنون التسول ولو أنهم كانوا يلعبون السلة بهذا المنظر لحسدهم الكثير من (الاطفال الغلابة) على هذه النعمة!! لكن تبقى هذه الملاحظات الفنية هي مجرد قشور مقارنة بالفكرة العظيمة والاحساس المقدر من فنان شاب كان يمكن أن ينفق ما انفقه لهذا الكليب في أغنية تضمه مع بعض الحسان ليضرب بها السوق طالما أنها هي البضاعة الرائجة هذه الايام لكن شكر الله اختار الطريق الصعب لكنه الطريق الحقيقي الذي يوصله إلى قلوب الناس مباشرة لينفي عن نفسه وجيله أنهم جيل الغناء الهابط الذي يسوق له بالسبسبة والفلفلة وشكراً جزيلاً شوية عليك يا شكر الله!! كلمة عزيزة لا زالت ترن في اذني كالجرس كلمات قالها الدكتور الجميعابي في حوار تلفزيوني معه أن من يأتون كل عام إلى دار المايقوما هم حصيلة ثمار (رأس السنة) والتعبير مفهوم ولا يحتاج مني إلى كثير تفاصيل. وأنا اضيف إليه أن من يأتون كل يوم إلى دار المايقوما هم نتاج ما نشاهده في الشارع من إنفلات في الملبس والالفاظ والسلوك. لذلك ولأن هذا الشباب ما عاد يرى في الفضائيات التي تدخل بيوتنا دون استئذان ما عاد يرى سوى المبتذلات العاريات، فقد ظللت اقول إنه علينا أن نمنحهم القدوة كنجوم المجتمع من فنانين وفنانات واعلاميين واعلاميات إذ أن خصوصية المجتمع السوداني تجعله محتاجا أن نكثف فيه التوعية والتربية أكثر لانه ومهما اسودت الرؤية فلازال لدي بصيص من ضوء فلنتبعه حتى نصل إلى كامل الضياء والبهاء. كلمة أعز طوال بث الفيديو كليب الخاص بموضوع الدعوة داخل دار المايقوما لاحظت أن إحدى المذيعات المكلفة بمتابعة الحدث لفضائيتها غابت لعمل مكياجها وتسوية شعرها وعادت بعد أن غنى شكر الله وقطعنا شوطاً في النقاش فادركت سبب (الدقسة) التي يعشنها وحالة التسطيح التي تلازم بعضهن.