بدءا من غد الأربعاء .. سينقلب ليل الخرطوم نهارا، بحركة الناس ونشاطهم، وارتيادهم الأسواق، والاستعداد الفعلي للعيد . والنشاط الذي سيسري في أوصال الخرطوم .. مظهر قديم جديد، ولولا أيام حظر التجوال الطويلة غفر الله لمن فرضها لاستمرت الخرطوم في سهرها القديم، ولاستمرت الحياة ذات حيوية على مدار اليوم .. مثل كل عواصم الدنيا ! والناس في الخرطوم، لهم تكتيكهم في التعامل مع رمضان، فالنصف الأول من الشهر، تسوده المساءات الكسولة، والسبب أن رمضان يقلب البرمجة المعتادة في الأكل والهضم والاسترخاء، فتكون ردة فعل الناس الاستكانة بمنازلهم، ثم يجدون أنفسهم يأوون سريعا لمهاجعهم، طلبا للراحة البدنية من عطش النهار ولهاثه، واستعدادا ليوم جديد من المكابدة في دروب المعيشة. لكن النصف الثاني مختلف، فالناس يكونون قد اعتادوا على إيقاع رمضان، فتصبح أبدانهم أقدر على تبديل الحركة النهارية الحذرة لنشاط واضح ليلا، ويساعد على ذلك الحرارة المناسبة، وحيوية الأسواق .. وانتعاشة حركة المواصلات .. حيث تسهر العاصمة .. ولا تهدأ الحركة إلا مع انتهاء السحور .. وهبوب نسمات الفجر الباردة. حيوية الليل .. سواء في رمضان أو غيره، دليل على عافية المجتمع، فهي ساعات تضاف لحركة النشاط الاقتصادي، ومساحة لمن لا يستطيعون قضاء حوائجهم نهارا بسبب العمل أو غيره، وفي العالم كله هناك المناشط الاقتصادية والتجارية والعملية والترفيهية التي لا تتوقف ليلا، فضلا عن المناشط الخدمية، ولا تخلو عاصمة من المرافق التي تعمل لأربع وعشرين ساعة يوميا، وحتى في مجتمعات الخليج وهي مجتمعات محافظة تنتعش المطاعم والمجمعات التجارية (السوبر ماركت) التي تعمل ليل نهار، وكثيرا ما كنت أهرب من زحام النهار، لأشتري حاجاتي من المواد الغذائية والتموينية المنزلية قبيل الفجر.. من محلات السوبرماركت التي تعمل طوال الليل .. حيث تتطلب طبيعة عملي الصحفي .. بقائي لساعات طويلة ليلا في العمل، ما يجعل وقت راحتي قسمة بين النهار .. والليل. طبعا لا نريد أن يصبح ليل الخرطوم نهارا، لكننا لا نريد للعاصمة أن (تموت) كل مساء، فقد كانت في أيام خلت عروسا باهية الحسن ليلا، وازدهرت فيها المطاعم ودور السينما والمواصلات، بل وكثير من المرافق الإنتاجية مثل مصانع النسيج، فكانت كلها تعمل ليلا، وما أحوج الخرطوم الآن للمصانع والمرافق التي تعمل في الليل .. والتي تخفض زحام النهار .. وتخفف أحمال الكهرباء النهارية التي أعيت عقولنا بأمراضها المزمنة ! ابتداء من غد .. سيعيد رمضان بعض نشاط الخرطوم الليلي .. والذي كان سمة للخرطوم في أيام عزها.. وبات مطمحا ليعود .. وتعود عطور الأيام الجميلة.