{ كنا نسمع دائماً - ونحن في المدارس الابتدائية - طيب الله ثراها، أن اللغة العربية تتميز أو ربما تعاني دون غيرها من اللغات من كثرة المفردات وقلة مصطلحات الاشتقاق، وكلما حاولنا التلاعب في حصص العربي استفقنا على صوت الأستاذ وهو يؤكد: «هناك ألف كلمة عربية بمعنى سيف، ومثلها بمعنى أسد ومثلها بمعنى غزال... الخ»، وعلمنا حينها أن لغتنا العربية غنية وقوية وجميلة ولكنها لا تتيح لنا الفرصة للتحاذق إذا أردنا مثلاً أن ندمج كلمتين فنقول: (التحلفس) عن التحليل النفسي، وربما نتهم عندها بالجنون أو الغرابة. { غير أن العقدين الأخيرين من عمر العرب واللغة العربية شهدا ثورة كبيرة وملفتة في عالم المصطلحات والمشتقات، فخرج علينا رجال السياسة والصحافة وأدعياؤها بابتكارات لغوية تبزّ سيبويه وأبا الأسود الدؤلي ولكنها لغة ذات أبعاد سياسية بحتة، فيوماً ما انقسم العالم كله إلى أمريكان وروس لا غير، وسرعان ما انتهى هذا التقسيم السلطوي ببروز فريق ثالث عقب مؤتمر باندونق الشهير فأصبح هناك شرق وغرب ومنزلة بين المنزلتين عرفت بالحياد الإيجابي الذي تطور فأصبح عدم انحياز، ثم تحول إلى دول للعالم الثالث ودول متخلفة يقال عنها تعاطفاً نائمة أو نامية ومعظمها من الناطقين بلغة الضاد التي لا تعرف الاشتقاق ولا يعرف زعماؤها الانشقاق عن الصف العالمي والتبعية أو التمرد على الهيمنة الغربية ويفضلون استخدام اللغة العربية فقط في بيانات الشجب والإدانة والرفض والتنديد والاستنكار. { وكلما زادت الانقسامات السياسية العالمية انعكس الأمر على العرب بشكل مؤلم، وبينما يسعى الإنسان العالمي المعاصر لتصنيف نفسه على أساس يعود عليه وعلى بلاده بالنفع والفائدة والريادة، يكتفي العرب الذين عاشوا ألف سنة وهم بين شَامٍ ويَمَنٍ بتصنيف أنفسهم لفئات بمصطلحات رنانة، فهُم إما تقدمي أو رجعي أو وحدوي أو انعزالي أو انفصالي أو مناضل أو مقاتل أو ثوري أو ثوروي، ولا أعرف تماماً الفرق بين الأخيرتين، إلا أنه وفي اللغة العربية وحدها تقلب التاء واواً عند صياغة النسبة ما عدا في الأمور والأحاديث السياسية وربما كان الثوروي أكثر ثورة من الثوري على اعتبار أن الامتداد في اللفظ هو امتداد في المعنى. { وعلى خلفية هذه المسميات أصبح الصراع العربي العربي صراعاً واضحاً تستخدم فيه مفردات السباب السياسي، ولا يقتصر على السباب بين معسكر وآخر بل يمتد ليشمل أبناء المعسكر وربما الوطن الواحد، لهذا أصبح هناك عميل وعملاء وعمالة ومأجورون وجواسيس ومرتزقة وخونة، وقال العرب في بعضهم ما لم يقله مالك في الخمر، لهذا دخلت قواميس اللغة اشتقاقات جديدة على شاكلة انتهازي، وصولي، انهزامي، غوغائي، استغلالي، متسلق. وسمعنا كذلك بالسلبية والزئبقية وهي في أقرب معانيها تعني التهرب من اتخاذ المواقف الواضحة الحاسمة، وما أكثر هذا المعنى انتشاراً في أصقاع الوطن العربي. { ويبقى السؤال: هل لا يزال علماء ومعلمو اللغة العربية على موقفهم القديم من افتقارها للاشتقاق اللغوي والمصطلحات المبتكرة؟! أعتقد أن العرب قد تجاوزوا مرحلة التفكير في أمور الصرف والنحو وبحور الشعر والغزل والاشتقاق اللغوي وأصبحوا أكثر اهتماماً بأمور الانشقاق والاختلاف، والانفصال والحروب الداخلية والأهلية والمذابح الجماعية والإبادة والتفاصيل الدموية الأعمق، وحسبنا الله ونعم الوكيل. { تلويح: متى يعلنون وفاة العرب؟!!