غيّب الموت يوم (الثلاثاء) الماضي في «باريس» الكاتب والمفكر الجزائري محمد أركون (1928-2010)، الذي خلف رحيله مع المفكرين الكبيرين محمد عابد الجابري ونصر حامد أبو زيد فجوات هائلةً في حقل الفكر والدراسات الإسلامية، وخسرت برحيلهم ساحات الاستنارة والعقلانية العلمية في البلدان العربية فرساناً نوادر ترك رحيلهم فراغا كبيرا لا يمكن تداركه بسهولة. ويوصف أركون عند مريديه وقرائه بالعديد من المسميات أبرزها: رائد الإنسية العربية، المحارب الشرس للمتأثرين بالمنهج الاستشراقي، ناقد العقل الإسلامي، وأحد أبرز علماء الإسلاميات التطبيقية، وكان واحد من « دعاة» الحوار بين الاديان. وقد آمن المفكر أركون بقيمة الإسلام المستنير والمعرفة العلمية الموضوعية وبقدرة الثقافة العربية على التجدد والانبعاث، علاوةً على ممارسته لكل العمليات المنهجية الممكنة وإخضاعه المدونة التراثية إلى عدة مقاربات من بحث ونقد وتفكيك وخلخلة وتأويل وتفسير واجتهاد أفضى إلى فهم استقر به الأمر عند إنجاز موسوعة من النصوص الحضارية الرصينة التي أعادت الجماعة العلمية العربية إلى لغة البحث والطريقة الصناعية التي كان يكتب بها في عصور الازدهار من أمثال التوحيدي والمعري وابن رشد وابن خلدون. لقد ناظر أركون كبار الفلاسفة والمفكرين الأوروبيين وأثبت من المستوى المرموق ومن الندية والقيم الفكرية والموضوعية معهم مما جعله محل احترام وتقدير أينما حل، ولكنه لم يلقَ في الفضاء العلمي العربي والإسلامي ما يليق بقيمته العلمية، بل على العكس من ذلك مُنع في العديد من المرات من زيارة بعض الدول والجامعات ومن تقديم المحاضرات والاتصال بطلبته ومريديه في عديد البلدان العربية. وتشير سيرة أركون إلى أنه وُلد في قرية «توريرت ميمون» الصغيرة بمنطقة القبائل شمال شرق الجزائر في بيئة اجتماعية بالغة التواضع، وبعد انهاء الدراسة الإبتدائية في قريته، أتم دروسه الثانوية في مدينة وهران ثم درس الأدب العربي والحقوق والفلسفة والجغرافيا في جامعة الجزائر العاصمة. وذكر الكاتب الفرنسي «كريستيان ديلورم» أن أركون قد أعد، بمساعدة من الأستاذ الجامعي الفرنسي الباحث في مجال الدراسات الإسلامية «لوي ماسينيون» شهادة الأستاذية في اللغة والأدب العربيين في جامعة السوربون، ثم تولى التدريس في عدد من الجامعات قبل أن يعيّن في العام 1980م أستاذاً في السوربون الجديدة باريس 3، التي درس فيها تاريخ الفكر الإسلامي وطور اختصاصاً هو الإسلاميات التطبيقية، ومنذ العام 1993م بات أستاذاً متقاعدا في السوربون، لكنه استمر في إلقاء محاضرات في كافة أنحاء العالم، وفي العام 2008م تولى إدارة مشروع «تاريخ الإسلام والمسلمين في فرنسا من القرون الوسطى حتى اليوم»، وهو كتاب موسوعي شارك فيه كثير من المؤرخين والباحثين، وصدر عن منشورات (البان ميشال)، وهو يروي ويشرح تاريخاً مشتركاً يعود لمئات السنين. ومن أهم كتاباته: تاريخية الفكر الإسلامي، قضايا في نقد العقل الديني، كيف نفهم الإسلام اليوم، الإسلام والحداثة.