النشيد المختار – الذي لم تشر اللجنة إلى مؤلفه وقالت إنها جمعته من أكثر من نص مقترح - يصف جنوب السودان بأرض كوش، وأهله بالمحاربين الأشداء والمقاتلين السود الذين سالت دماء الملايين منهم من أجل الحرية والعدالة، والدفاع عن أمة جنوب السودان وحمايتها، كما عدّد النشيد ما اعتبره مزايا أرض جنوب السودان وقال إنها جنة عدن، أرض اللبن والعسل، والعمال الأقوياء، وأرض النيل والجبال والغابات، وموطن حضارات العالم، مختتما بالدعاء أن يبارك الرب الأرض الجنوبية، ويقول في بعضه عباراته: (يا الله نحن نصلي ونمجدك لتنعم على كوش أرض المحاربين الأشداء الأرض التي خرجت منها حضارات العالم) مستشار وزارة الإعلام والقيادي بالمؤتمر الوطني (ربيع عبد العاطي) اعتبر - في أول رد فعل - اختيار النشيد استباقاً لنتيجة الاستفتاء - (الأهرام اليوم) 17/9/2010 - لكن القيادي بالحركة الشعبية (أتيم قرنق) قال إن اللجنة التي أعلنت نتيجة المسابقة لا تحمل تفويضاً، وأضاف: (ذلك يعبر عن تباين التيارات التي تقودها منظمات المجتمع المدني في الجنوب تجاه الاستفتاء)- (الأهرام اليوم 17/9/2010). ليثور بتصريح (أتيم) استفهام آخر: هل كان الخبر مجرد بالونة اختبار.. أم رسالة ذات مغزى وتوقيت تعرف الحركة وحدها فحواه؟ (الأهرام اليوم) هاتفت المدير العام للهيئة القومية للآثار والمتاحف، الأستاذ حسن حسين إدريس أحمد، واضعة أمامه كل التساؤلات، فقال: من حق أي سوداني الاعتزاز بكل حضارات موطنه، في أي بقعة من بقاعه الممتدة مليون ميل مربع، مادام وطننا جميعاً.. غير أنه أشار إلى أن (كوش) - تأريخياً - معروفة بحدودها وتاريخها وآثارها، وأقصى ما وجد بآثارها جنوباً كان بسنار وجبل موية، وقال: (في حالة الانفصال يحق لكل دولة الاعتزاز وإبراز الحضارات التي عرفت في نطاق حدودها، فقط). وأضاف: الأمر لا زال في طور (الحديث) غير الرسمي، وربما كان لأبعاد سياسية، وبالونة اختبار، ولا يمكن الرد عليه إلا إذا خرج بصورة رسمية مستصحباً دفوعات تأريخية وجغرافية يمكن الأخذ والرد فيها. وعاد محدِّثنا وتمنى ألا يضطر الناس للجدال في الأمر.. بأن يظل السودان واحداً موحداً. أما على صعيد الحركة الشعبية فالأمر يبدو غامضاً بعض الشيء.. فبعد أن حملت متون الصحف والوكالات الخبر لم تشر حكومة الجنوب أو الحركة الشعبية للأمر.. بعد النفي الذي ساقه (أتيم قرنق) بعدم تفويض اللجنة رسمياً منهم.. فمن الذي كلفها ورصد لها ميزانية عملها.. وأبرز للإعلام نتيجته..؟ الناطق الرسمي باسم الحركة الشعبية «ين ماثيو» رفض التعليق ل (الأهرام اليوم) على ورود «كوش» في نشيد «جنوب السودان وييي»، مبرراً ذلك بأن الأمر يخص حكومة الجنوب، ولا دخل للحركة الشعبية في الأمر.. لا من قريب أو بعيد.. مشدداً على الفصل بين الحركة وحكومة الجنوب ككيانين مختلفين! فيما تحفظ القيادي بحكومة الجنوب (بول ميوم).. وبدا جائلاً على تخوم الموضوع.. دون طرق مباشر.. وقال ل (الأهرام اليوم) إن الأمر ليس له مغزى أو إسقاط سياسي، وقال إن «كوش» حضارة معروفة في تاريخ السودان، واكتفى في حديثه للصحيفة بالإشارة إلى أن الاستفتاء و(تبعاته) أمر يخص المواطن الجنوبي وحده ولا أحد أو جهة يمليان عليه إرادته.. هكذا قال.. أو لم يقل..! وعلى صعيد المؤتمر الوطني كان اعتبار الأمر - كما سبق - استباقاً لنتيجة الاستفتاء.. ورأى القيادي بالمؤتمر الوطني، المستشار بوزارة الإعلام (ربيع عبد العاطي)، في حديثه ل (الأهرام اليوم) أن الحركة تعيش أزمة عموماً على مستويات قياداتها، وضرب مثلاً بتصريحات سلفاكير الأخيرة بإمكانية إجراء الاستفتاء عبر حكومة الجنوب منفردةً في جنوب السودان، واعتبر التصريح خروجاً على الاتفاقية والدستور.. وشبه الحركة بالطالب الذي يريد أن يحرز أعلى الدرجات لكنه (يشف) من آخر – في إشارة من إلى وجود جهات مؤثرة على الحركة – وأضاف: (إن ورود «كوش» في النشيد امتداد للاضطراب الفكري الذي تعيشه الحركة). هكذا قالت الحركة الشعبية وحكومة الجنوب والمؤتمر الوطني.. فبماذا يكمل التاريخ الحلقة؟ عندما نفتح كتب التاريخ نجدها تشير إلى أن كوش الأولى كانت عام 2500 ق.م، ثم تلتها كوش الثانية عندما نجح الملك كاشتا في استرداد عرش بلاده من الإمبراطورية المصرية وأقام دولة كانت عاصمتها في مدينة (نبتة) بالقرب من الشلال الرابع.. وكانت تجاورها مملكة مروي النوبية، وفي الشمال الإمبراطورية المصرية، وخلف «كاشتا» على العرش ابنه (بيا) الذي كان يطلق عليه بعانخي، وتمكن من توحيد قطري وادي النيل بعد أن استنجد به المصريون لحماية طيبة في الجنوب من خطر الملك الشمالي (تفنخت)، فحرّر مصر كلها ليتوحد وادي النيل للمرة الأولى في التاريخ. واستمرت مملكة نبتة في ازدهارها في الجنوب بعد انسحاب آخر ملوكها من مصر، ثم بدأت حدودها الشمالية تتعرض للاعتداءات المصرية المتكررة، مما حدا بملوك نبتة إلى تحويل العاصمة من نبتة لمروي بعيداً عن الخطر المصري، لكن انتهت المحاولات المصرية المتكررة باحتلال الأجزاء الشمالية حتى الشلال الثاني في عهد الملك المصري بسماتيك الثاني، ثم ضعفت مروي وتفككت، وأخيرا جاءها (عيزانا) وهي في أقصى حالات الضعف فدمّر ما تبقى منها عام 350م. وأقصى ما وجُد بآثارها جنوباً كان بسنار وجبل موية. هكذا يتحدث التاريخ (اختصاراً).. لتظل جدلية ومغزى ورود «كوش» في نشيد «جنوب السودان وييي» لغزاً.. ربما فكت طلاسمه المرحلة المقبلة.