بعد تدهور مريع شهدته المشاريع الزراعية بالبلاد، لا سيما مشروع الجزيرة، الموطن الأصلي للقطن بالسودان؛ تراجع المحصول إلى أدنى مستوياته، لتحتل بلادنا موقعاً ذيلياً في مؤخرة القائمة العالمية، في الوقت الذي تصدرنا فيه سابقاً الريادة الإنتاجية في هذا المجال، وظل المحصول لفترات متطاولة مورداً للعملات الصعبة، لتتفوق علينا اليوم بلدان مثل الهند والصين والبرازيل، وهي التي دأبت على الاستيراد منا في عصور خلت! خروج الدولة كلياً من المشاريع الزراعية الرئيسية، وترك حرية اختيار المحاصيل للمزارعين؛ مثّلا أبرز العقبات التي أدت إلى خروج القطن من دائرة الإنتاج، كما يُعزى تدني الإنتاجية كذلك إلى الاعتماد على أصناف قديمة تجاوزها الزمن، بالإضافة إلى غياب التمويل الذي شكل عقبة أساسية أمام المزارعين ودفعهم إلى إهمال زراعة المحصول، وعدم استخدام التقانات الحديثة التي تزيد الإنتاجية. وظلت قضية القطن معلقة لسنوات طويلة، ولم تقتنع الدولة بأهمية المحصول كصادر، لا سيما في ظل وجود آبار النفط. التدخل السياسي للحكومة أدى أيضاً إلى الحد من زراعة القطن، وذلك بموافقتها على تمرير القوانين والتشريعات الزراعية، وإجازتها بواسطة المجلس الوطني. هذه العوامل مجتمعة أدت إلى التراجع الملحوظ في الإنتاج الوطني، فبينما كانت المساحات المزروعة قطناً خلال حقبة الستينيات والسبعينيات حوالى “1.2” مليون فدان تنتج أكثر من مليونيْ بالة؛ تراجعت هذه الأرقام خلال التسعينيات وبداية الألفية الثالثة؛ لتبلغ جملة المساحات القطنية في الموسم الزراعي 2001/2004م حوالي “299” ألف فدان أنتجت “378” ألف بالة، ويتواصل تراجع المساحات حتى بلغ في 2009 حوالي “29” ألف فدان! الخبير الزراعي الريح مساعد الريح، اعتبر أن المحصول استحق لقب (الذهب الأبيض) في ما سبق؛ نظرًا للمداخيل والعملات الصعبة التي تأتي عبره. مساعد في حديثه ل (الأهرام اليوم) ألقى باللائمة على السياسات الحكومية برفع الدعم عن المزارع، وبعد أن كان المحصول يعتمد عليه في تربية الأولاد وتعليمهم؛ أصبح الآن يحقق خسارةً فادحةً، عازياً الأمر إلى ارتفاع تكاليف مخزونات الإنتاج، واتجاه الحكومة لاستزراع محاصيل أخرى، معتبراً أن زراعة القطن تعاني من الإهمال الشديد منذ ما يزيد عن 20 عامًا، وتشكو من ضعف الدعم الحكومي، وعدم استخدام الأساليب التقنية الحديثة في العمليات الزراعية. تدهور زراعة القطن بحسب الخبير الزراعي الريح مساعد يعود إلى عدد من الأسباب، منها: قِدَم أصناف القطن وعدم تجديدها من حين إلى آخر لتتناسب مع الظروف المناخية الجديدة، بالإضافة إلى تخلي الحكومة عن برنامج تحسين أصناف القطن، بجانب إيقاف تمويلها لبحوث أصناف القطن وعدم تخصيص ميزانية لمركز البحوث الزراعية، حتى أصبح الفدان الواحد للقطن لا يعطي أكثر من 5 قناطير فقط! ما يعني في المحصلة ضعف الأرباح التي يحققها القطن إذا تمت مقارنته بالمحاصيل الزراعية الأخرى المنافسة. الريح لم ينس في خاتمة حديثه الإشارة إلى أنه بعد إلغاء دور وزارة الزراعة وإهمال الدورة الزراعية وتناقص المساحات الزراعية في جميع أقطار الجمهورية وإحلال محاصيل بدلاً عن القطن؛ كانت النتيجة الحتمية (أزمة القطن)! الخبير الزراعي السابق بمشروع الجزيرة، جاد الله سالم، لم يبارح مدخل تشخيصه للأزمة إفادات الخبير الزراعي الريح مساعد الريح، فهو يرى من جانبه أن السبب الرئيسي لتراجع الأقطان يعود إلى السياسات التي انتهجتها الحكومة، بتخليها عن القيام بتوفير سلفيات الأعمال الحقلية ووزيادة الرقعة المزروعة بالمحاصيل الغذائية خصماً من مساحات الأقطان، في توجه سياسي لم يستصحب المصلحة العليا للوطن، التي كانت تتطلب الإبقاء على الأقطان، ما دفع مستوردي الأقطان السودانية، الذين كانوا يعتمدون على المنتج السوداني، للتوجه إلى مصادر أخرى تفي باحتياجاتهم. كما أن بعض الدول اتجهت للإنتاج بعد أن وجدت أن القرار في السودان بات سياسياً أكثر منه اقتصادياً، موجهاً النصح للحكومة باعتماد مبدأ المصلحة العليا قبل القرار السياسي! إصابة الأقطان السودانية بالعسلة بحسب جاد الله مسألة ساعدت على تراجع المحصول، وأضرَّت بسمعة الإنتاج الوطني، وقد جاء في تقرير اتحاد الغزَّالين العالمي أن السودان يحتل المرتبة الأولى بالنسبة للأقطان الملوثة بالعسلة في العينة (أكالا)، وجاءت العينة (بركات) في المرتبة الثانية للعينات الملوثة، في وقت اتجهت فيه العديد من الدول المنافسة إلى تحسين موقفها مثل تشاد، ومالي، والكاميرون، علماً بأن تأثير العسلة يفقد الأقطان (17%) من إجمالي قيمتها، كما أن الفاقد الناجم عن التلوث يصل إلى (10%) من إجمالي الإنتاج! المهتم بالشأن الزراعي، والمتخصص في الهندسة الزراعية، حامد عثمان حامد، يرى من وجهة نظره أن قطاع الأقطان من أكثر المحاصيل استيعاباً للقوة العاملة، وحري بالحكومة مراجعة سلبيتها التي ترتديها تحت عباءة سياسة التحرير، معتبراً الإسهام الاجتماعي للقطن يحتم على الحكومة العودة إلى تمويل زراعته وحلجه، لا سيما أن التمويل الخاص قد أسهم في تجفيف هذا المورد. ويمضي حامد في أن على الحكومة إصلاح خطئها القاتل عندما قامت بتقليص مساحات الأقطان لصالح القمح، فلا البلاد اكتفت غذائياً ولا عادت الدولة لتفعيل إنتاج القطن! فك الارتباط بين السياسة الزراعية والتوجه السياسي أمر أساسي لتحقيق الأهداف المنشودة، بحسب ما يرى بعض المراقبين للشأن الزراعي، ممن استنطقتهم الصحيفة، وهو ما يعني ترك التركيبة المحصولية للإدارة الزراعية، وأن الاستقرار في استزراع أصناف معينة يجعل مستهلكي هذه العينات أكثر ارتباطاً بالمنتج. وفي السياق أكد مدير شركة السودان للأقطان، الدكتور عابدين محمد علي، استعداد الشركة لاستزراع المحصول للموسم المقبل برقعة زراعية تفوق 500 ألف فدان، بتوفير التمويل الكافي للمزارعين، بجانب توفير مدخلات الإنتاج من تقاوى وأسمدة، مشيراً إلى إدخال أصناف جديدة مثل (حامد وعابدين) لجهة زيادة الإنتاج، لا سيما أنها أثبتت فاعليتها ومقاومتها للأمراض وتم إنتاجها من قبل هيئة البحوث القومية، موضحاً أن الهدف الأساسى منها رفع معدل الإنتاج والإنتاجية، فضلاً عن رفع مستوى المحصول إلى الجودة العالمية حتى يستطيع المنافسة في الأسواق الخارجية وتوفير العملات الصعبة للبلاد. وعزا د. عابدين محدودية المساحات المستهدفة بزراعة المحصول بالمشروعات الرئيسية التي لم تتعد ال (110) آلاف فدان؛ إلى عدم إعطاء المزارعين للشركة المساحة التي كانت تستهدفها، والمقدرة ب (300) ألف فدان، مؤكداً وضع الشركة لخطة متكاملة العام القادم، تهدف من خلالها إلى زيادة الإنتاجية في الأصناف الجديدة والمتوسطة، لتبلغ (10) قناطير للفدان، فيما تستهدف (8) قناطير للفدان في الأصناف التقليدية. من جانبه توقع المنسق القومي لأبحاث القطن البروفيسور أحمد التيجاني، أن يحقق الموسم الحالي إنتاجية تتراوح بين (11-12) قنطار شعرة، لصنف حامد، بحسب تقديرات وفود برازيلية وإيرانية زارت المشاريع الزراعية أخيراً، بجانب أن تحقق الأصناف الجديدة التي تمت زراعتها فى (20) ألف فدان بمنطقة (أقدي) إنتاجية عالية تفوق إنتاجية الأعوام الماضية بعد أن أكدت الأبحاث التي أجريت عليها جودتها وخلوها من الأمراض.