حرسنا لسنوات أن تتغير النظرة الدونية للدراما السودانية في الوسائط الإعلامية - بعيداً عن الإذاعة القومية - ليس لأن الأمر يشكل هواية محببة لكثيرين أو مصدر رزق وحياة لآخرين، إنما لأننا نود بشكل واقعي وواع أن يتم تغيير كبير على المستوى الاجتماعي لكثير من القضايا، وهذا لن يكون بدون استصحاب الدراما كوسيط أدائي يسهل وصول وتلقي المعلومة بشكل مريح وممتع، هكذا دون الدخول في تفاصيل أكثر تعقيداً كالانسجام بين الفنون والموازنة الفنية والنقدية.. الخ، وأعتقد أن شخصية (خلف الله) دليل حي ومباشر لأن يتم تغيير النظرية التي بها تمّ قمع الدراما السودانية دون أن تسأل بأي ذنب وئدت!؟ (وادي أم سدر) سيمفونية (الشفيع الضو) الإخراجية التي بعدها لم يغنِّ، تنازل التلفزيون القومي من ضمن تنازلاته الأخيرة بعرض أجزاء منها خلال الحلقة التكريمية للفنان سيد شباب الفن عموم الراحل (العميري)، حيث أنه وفي ذاك الزمان وتلك الصعوبة الإنتاجية استطاع نجوم الدراما، وكانوا حينها في بداياتهم الفنية، إخراج عمل لن يمحى من الذاكرة البصرية، والسمعية والشفهية للذين لم يروه. فإذا كانت هذه هي المقدرة الإنسانية والفنية لذات هؤلاء الفنانين ما الذي جدّ ليتبدلوا ويصبحوا هم المنبوذون من ذات الجماهير التي شغفها حب (بيوت من نار)، (الدلالية )، و(تلفون القلوب ).. الخ، المسلسلات الكثيرة إنتاجاً وإخراجاً وتمثيلاً؟ المثال واضح للعيان، هي فكرة المقارنة الفارقة بين غزير الإنتاج العربي المتدفق عبر شاشة التلفزيون القومي آنذاك وعبر القنوات الفضائية الجديدة في الوقت القريب، بجانب المحاربة المحلية الداخلية، إدارياً وإعلامياً، للإنتاج الدرامي، حيث أن التلفزيون القومي كان إلى وقت قريب هو النافذة الوحيدة المتاحة لمشاهدة الأعمال الدرامية، لذلك كان من الطبيعي ان يسيطر مزاج مسؤوليه على مسألة إنتاج الدراما بما يتوافق مع رغبات ذاك المزاج ومنصرفات ميزانياته المتاحة، وما زاد طين الدراما بلة؛ دخول السمسرة للشركات الوسيطة في العملية الدرامية بأن تستجلب هامش الإنتاج العربي وبأسعار خيالية في قلّتها، والدعوى الساذجة بأن هذه مسلسلات رغم نجومية الأسماء في القصة والإخراج والتمثيل إلا أنها بتكلفة أقلّ من الإنتاج المحلي، فيربح الرقم المادي ويخسر الرقم الفني! الشيء الذي أدخل للدراما سوقاً جديداً في مجال الاستثمار فيها، لكن بشكل مختلف أفضى إلى إعلان إفلاس شركات وطنية غامرت بالدخول في إنتاج مسلسلات سودانية. وحتى عقب دخول مساحات بث فضائي سوداني جديد إلا أنه قد تكررت ذات الأعمال المنتجة القديمة قريباً المعروضة سابقاً في التلفزيون، أو التي تمّ رفضها من قبل لجان المشاهدة للأسباب المزاجية المذكورة سابقا. اللهمّ إلا من جرأة التجربة الدرامية (حكايات سودانية) على قناة الشروق حيث أنها ثابتة على مستوى غزارة الإنتاج؛ وعلى مستوى التقنيات الفنية العالية: تصوير، إضاءة، إخراج، والإنتاج المتميز والأداء التمثيلي الرفيع فيها، إلا أنه يعاب عليها أنها سلسلة ذات فكرة توجيهية مسبقة، فقط ينقصها السيناريو ثمّ التمثيل لتخرج دراما محبوكة تماماً، لكنها موجهة، هذا بجانب التمثيليات والكوميديا الخفيفة والرمضانيات! وما مضى من أحداث في مسيرة الدراما السودانية في السنوات القليلة الماضية كانت إلى حد ما تتلخص في منطق واحد هو أنها كانت كبش الفداء لتبرير وتمرير أفكار حكومة الإنقاذ في ذاك الحين على المستوى الإعلامي ولتبيان مدى تأثير الفكر الإسلامي على طباع الحكم الجديد في السودان. لكن ما يؤسف له أنه، وعقب التغييرات السياسية الكبيرة والشروخ والخروق التي طالت الحركة الإسلامية والإنقاذية، وتحولت بسببها الكثير من الاتجاهات الفكرية والإيمانية والإعلامية؛ لم تتغير النظرة الدونية للدراما على الإطلاق، فقد ذبحت ككبش ووئدت كجريمة، لم يعرها أحد الاهتمام، حتى الدراميين اختاروا أن يتنفسوا سراً عبر دراما الإذاعة وبعض المسرحيات المحتملة الجمهور، وقد مات بعضهم كمداً أو بُعداً. بعيدة عن السياسة يجب أن تكون الدراما قريبة من الناس وأحوالهم وقصصهم التي يجب أن تنقل عبر وسيط القصة والسيناريو وتقنيات العمل مجتمعة لتصبح محركاً ومحفزاً إعلامياً لتغيير المجتمع بأكمله - (الشاهد والضحية).. (سكة الخطر).. أقمار الضواحي.. الخ) - لكن قبل ذلك يجب أن تعاملها الدولة معاملة المثل إن لم تكن التمايز على كثير من الفنون الأدائية الأخرى، ليس تحيزاً عاطفياً منِّي، أو موازنة ضمير منها؛ لكن لأنها ظُلمت ذات سياسة وذات فكر وذات ميزانية مرتين! وأن يفرد التلفزيون القومي وبعض القنوات المحلية مساحات مقدرة ومتميزة للإنتاج بكل أنواعه: مسلسلات، تمثيليات، أفلام تلفزيونية، مسرحيات مصورة تلفزيونية، وبرامج درامية هادفة.. الخ، وأن نتمكن من الجلوس في وادي السمر، نحرس مواعيد المسلسل السوداني بفكرة مسبقة وموجهة لحب نجومه وحكاياته السودانية الخالصة..