{ الثورات ما وقر في القلب من شعارات وأجندات، وصدّقها القمح، من لا قمح له لا ثورة له، الطريق إلى الثورات يبدأ بزراعة القمح، فكل هذه الثورات العربية ستتعرض إلى عمليات سطو وسرقة إن لم يحرُسها «مخزون إستراتيجي من القمح»، فلقد أصبح من اليسير جداً أن يخرج شعب إلى الطرقات العربية ليصنع ثورة، لكن في المقابل يصبح من العسير جداً المحافظة على هذه الثورة، لأن القصة ببساطة شديدة هي أنك ستحتاج لقمح يوازي ثورتك، فيوم أن ينفد قمحك ستنفد ثورتك! { وتتجلى هذه الرؤية «بابتذال شديد» في الثورة الشعبية المصرية، فمنذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد على عهد الرئيس الراحل أنور السادات ومصر تعتمد في غذائها على واشنطن، فهنالك ما قيمته مليارا دولار هي إعانة سنوية من واشنطن لمصر، أقول «إعانة» ولا أجرؤ إلى أن أسميها «إهانة»، فلكي تحكم مصر لابد أن تحافظ على معادلة الحكم التي وضعتها «اتفاقية سلام «كامب ديفيد» = محاربة الفلسطينين وقفل كل المعابر والمنافذ التي تؤدي إلى قطاع غزة، وفي المقابل فتح كل قنوات التواصل والتبادل الدبلوماسي مع دولة الكيان الصهيوني وإلا فأن شحنات القمح ستتوقف»، والأزمة ليست كلها في هذه «الإعانة»، ولكن الأزمة كل الأزمة تكمن في «حالة الاستكانة» وعدم العمل تدريجياً وتكتيكياً للفكاك من «أسر القمح الأمريكي»، فجمهورية مصر العربية صاحبة الخمسة وثمانين مليون مواطن بالكاد «يحكمها القمح الأمريكي»، فلا يملك أحد أن يحكم مصر بمعزل عن القمح الأمريكي، فعلى سبيل المثال، تستطيع «جماعة الإخوان المسلمون» المحظورة أن تصنع ثورة باهظة، ولكن ليس بمقدورها أن توظِّف تلك الثورة، بل أن واحدة من استحقاقات كامب ديفيد أن يبقى النظام المصري على كلمة «محظورة» هذه ملتصقة بجماعة الإخوان المسلمين، حتى كادت أن تصبح جزءاً لا يتجزأ من الاسم «جماعة الإخوان المسلمون» المحظورة. وإذا أرادت هذه الجماعة أن تحكم مصر مستقبلاً عليها أن تترك «ميدان التحرير» جانباً وتذهب لتصنع «ثورة قمح» هائلة في حقول مصر، ولمّا تملك قمحاً يصلح لصناعة ثورة تأتي لميدان التحرير بوسط القاهرة، تأتي وشعارات الثورة بيمينها وقناديل القمح بشمالها، وأستطيع أن أزعم، والحال هذه، بأن ثورة مصر التي تجتاح كل الطرقات الآن ستؤول وفي خاتمة المطاف إلى واشنطن وستخضع إلى قمحها! { وربما يلاحظ قراء هذه الزاوية، وقبل اندلاع تلك الثورات الشعبية من حولنا، ظللنا نكتب بانتظام عن «شرعية الخُبز»، على أن العالم برمته يتحلل من كل الشرعيات ليدخل بامتياز إلى «شرعية الخُبز»، فليس بإمكانك أن تحافظ على ثورتك ومخازن قمحك خاوية على عروشها، وفي المقابل ليس بإمكانك أن تصنع «ثورة بديلة» إن لم يكن لك ما يوازيها ويوازي شعبها من خبز، ليس هذا فحسب، بل ليس لكل ثوراتك النفطية والسدود معنى إن لم تكن مخرجاتها قمحاً وخبزاً، بل أن الشعوب ستذهب في كل صباح إلى الأفران لترى شرعية حكومتها، إذا قلّ وزن الخُبز، يقل وزن الحكومات، وإذا انخفض سعره تزداد شرعية الحكومة وتحتدم، بل إنما الحكومات الخُبز، فإن همو ذهب خُبزهم ذهبوا! { إذا أرادت الأمة العربية والإسلامية الحياة يوماً والتحرُّر، فلابد أن تجمع أمرها على قيام الثورة الزراعية العارمة، على أن يوفّر السودان الأرض الخصبة والماء العذب ويوفر الخليج والجزيرة العربية النفط والأموال والآليات، وتوفر مصر والشام الأيدي العاملة، ثم بعد ذلك يحق لنا أن نتحدث عن الثورة والتحرُّر.. { مخرج.. إذا كنت لا تملك ما يكفي من القمح، فلا تُقدِم على صناعة ثورة، وإنما تحُمى الثورات بالقمح.. والله أعلم.