كان قدراً عجيباً أن تنتظم جملة من الأحداث والمفارقات أرض البجا ونحن نترقب مع الجموع المحتشدة قلق المخاض السياسي الذي بدا واضحاً في وجوه (الأدروبات) وهم يجرجرون خلفهم بعض مخاوفهم وأشواقهم في انتظار الوالي محمد طاهر إيلا، الذي طالت غيبته، ولم يعد متاحاً لهم إدراك الحقيقة الغائبة، رغم كثرة الطمأنات. كنا عدداً من الصحفيين الذين تضج عيونهم بالأسئلة الحائرة، ولكن فجأة وعلى غير العادة ترتبك طائرة (البوين)، فثمة امرأة في المؤخرة تحتج بشدة على تبديل مقعدها ليجلس عليه شخص يبدو أنه مهمٌّ نظراً لتحفّز طاقم الطائرة، الإصرار على بناء حد فاصل بينه وبقية الركاب، وبالفعل صعد المبعوث الأمريكي إلى السودان سكوت غرايشن ذو الملامح الودودة إلى سلم الطائرة، وبصحبته طاقم مكتبه. كانت الأسئلة التي طرحناها على بعضنا هي: ما الذي يريد أن يفعله غرايشن في الشرق؟ هل انتهت المهمة في جنوب السودان وأطلقت الصافرة لمباراة جديدة ملعبها هذه المرة أرض البجا؟ هل قرر الرجل كسر حاجر الملل بالغوص في سواحل البحر الأحمر والبحث عن شعب مرجانية؟ ما الظلال السياسية التي تختبئ في تفاصيل هذه الزيارة المفاجئة كما أطلق عليها البعض؟ أم أنه فقط يريد متابعة تنفيذ سلام الشرق كما حملت صحف الخرطوم؟ غرايشن طوال زمن الرحلة لم يكلم أحداً، فقد كان يحدّق في صحيفة (ستزن) أحياناً، وفي أحايين أخرى يمرر بصره على صحيفة (الأهرام اليوم)، ثم ينشغل بلعبة (السودوكو) اليابانية التي يبدو أنه مهوس بها لدرجة بعيدة. وفي مساء ذات اليوم بدأت مهمة الرجل تتكشّف شيئاً فشيئاً بعد أن منعت سلطات الولاية وفد القوى السياسية بما فيها مؤتمر البجا من مقابلته، ومنع غرايشن من زيارة المصفاة وعدد من المرافق الإستراتيجية، وتضاربت الحقائق بخصوص الزيارة التي استغرقت يوماً واحداً، حيث عاد الرجل إلى الخرطوم بذات الطائرة التي أقلت الدكتور محمد طاهر إيلا من المركز، وهي المصادفة التي جعلت غرايشن يغيب في حشد الاستقبال الذي غطى سواحل الولاية، وكان غرايشن شاهداً على كل شيء. عاد إيلا على ظهر موجة عاتية من الحنين، وقد خرجت المدينة عن بكرة أبيها لاستقباله بالزغاريد والطبول والخيول و(المواتر) والحمائم البيضاء، ولكن من الملاحظات التي فرضت نفسها على المراقبين هي درجة التحفز الأمني والحذر الكثيف الذي لازم عملية الاستقبال، والتدقيق في الهويات بشكل غير معهود في مثل هذه الملمات، مما ولد سؤالاً مفتاحياً: هل كل شيء هادئ في الميدان الشرقي؟ لا سيما أن بعض الملصقات واللافتات التي نصبت لاستقباله تعرضت صباح اليوم التالي، وهو يوم الأحد، لعملية تشويه متعمدة؟ فهل توجد معارضة بذلك الحجم والخطورة في بورتسودان وحواريها؟ وقد كان لافتاً حقاً بعد شائعات الخلاف الذي كاد يشق صف المؤتمر الوطني بالولاية؛ صلاة الشكر التي أقيمت في مدرج المطار، وصوت الشيخ الزين وهو يتلو عبر أثير إذاعة البحر الأحمر قوله سبحانه وتعالى (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ). ليس إيلا وحده، ولكنّ عدداً من الذين خاطبوا الحشد حاولوا أن يبددوا وحشة القلق والانتظار، ومما جعل حرارة الجو تزداد سخونة؛ عودة الهتافات القديمة والشعارات الدينية التي تلاشت في الفترة الأخيرة (هي لله هي لله لا للسلطة ولا للجاه)، ومن ثم سرح المغني في النشيد (في حماك ربنا في سبيل ديننا)، ولم يتردد فارس الشرق كما أطلق عليه البعض في (النزول للدارة). في كلمته القصيرة والنارية شن إيلا هجوماً عنيفاً على خصومه الذين رددوا شائعة تمرده ووصفهم بالمندسين وقال إنهم لا يعرفون إيلا فهو ليس بالرجل الجبان ولا يبحث عن المناصب التي ظلت تأتيه منقادة منذ أن كان جندياً في صفوف الحركة الإسلامية، وقال إن الذين سخروا من حقيقة مرضه عليهم أن يعلموا أنه بشر يمرض ويموت. وأرسل جملة من الرسائل وأطلق الهواء الساخن من صدره، متوعداً أصحاب الأصوات المشروخة كما سمّاهم بالحسم الأمني والسياسي، وأعلن استعداده لمغادرة منصبه إذا ثبت أن المؤتمر الوطني لا يريده، مشيراً إلى أن ذلك اللقاء هو بداية لمرحلة تفعيل الأجهزة التنفيذية والسياسية لتضخ فيها دماء جديدة، موجهاً خطابه نحو الشباب وقال إن الذين تعودوا على حديث الإفك مجرد أقلية وهو على استعداد لمنازلتهم جماعات ووحداناً، واستطرد أنه ليس جباناً حتى يهرب بليل، لافتاً إلى أنه منتخب ومحمي بالدستور، وقال إن الذين يزرعون الشك عبر بيانات مجهولة الهوية وينسبونها إلى القبائل ليست لديهم الجرأة ليعلنوا أسماءهم الحقيقية، معرباً عن سعادته بالعودة بعد أن منّ الله عليه بالشفاء، متعهداً بحزمة من المشروعات التنموية، وأطلق على العام الحالي عام الريف ومساعدة الشرائح الضعيفة، وأشار إلى أن برنامج التعليم من أجل الغذاء الذي اعتمدته الولاية لدفع الأسر لإحضار أبنائها للدراسة؛ سيتواصل حتى المرحلة الجامعية. وخاطب الجماهير بلهجة البداويت، مما أطلق الحماس والتفاعل إلى أقصى شاشات الصراخ والتهليل، وقد اكتسى صوته بحزن غريب، وبدأ أثر الألم عليه جلياً، ولكنه ألم مشفوع بفرحة لقاء العشيرة والعودة إلى الحضن الدافئ، وقد بدا حقاً أن ظهور إيلا بعد تطاول أمد الغياب وكأنه الحدث الأكثر جذباً لفلاشات الصحفيين ورواد مهنة البحث عن الحقيقة، لا سيما أن غيابه أثار جدلاً كبيراً وخطابه المشفوع بضرورة التغيير لم تنفك المدينة تتداوله وتتباين ردود الأفعال حوله بشكل متسارع، فما هو رأي القوى المعارضة في خطاب إيلا الناري؟ هذا ما سنتعرف عليه.