كنت قد وعدت القارئ الكريم أن أختم مقالاتي بالحديث عن سيادة المشير عبد الرحمن سوار الذهب رئيس المجلس العسكري الانتقالي ولكن - ويا سبحان الله - فرغم أني لم أشعر بحب وإعزاز وعرفان وتقدير لأحد بعد والدي إلا لهذا الرجل، غير أن القلم يصبح عاجزاً كلما نويت الكتابة عن سيادته وأرجو ألا يعتبر هذا جحوداً مني- لا والله.. لا والله.. ولكن وكما قلت فمهما كتبت وكتبت فلن أوفيه حقه وأسأل الله السميع المجيب أن يزيد له في ميزان حسناته عدله وصبره وحقنه للدماء. خلال عملي بالمراسم التقيت بعدد هائل من رجال الصحافة أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر المرحوم حسن ساتي، محيي الدين تيتاوي، العقيد محمود قلندر، فضل الله محمد، محمد الحسن، الفاتح التجاني، عبد المنعم محمد عثمان بسونا، مصطفى أمين مديرها ونور الدين مدني وآخرون كوكبة من كواكب الصحافة في بلادنا كانت لي بالبعض منهم صداقات وذكريات. ويسرني اليوم أن أكتب بضع أسطر عن أحد أعلام الصحافة واستحلفه بالله وبشرف مهنته أن يوافق على النشر ولا يستخدم قلمه الشيني في الشطب. إنه أحد الأكفاء الثقاة وإعلامي من الطراز الفريد لفت نظري وأثار إعجابي بفكره الثر وقلمه الجريء هذا ما لمسته ويشهد الله أنني لم ألتقِ به وإنما عبر كتاباته وتحليلاته وسماعي لأحاديثه وتفاعله مع الأحداث بكل أمانة ووطنية، كما أن هنالك صفة أخرى يتصف بها هذا الرجل نقلها لي أحد معاونيه يُدعى «لؤى الصاوي» بأنه يتمتع بحب كافة العاملين معه لدرجة أنهم قد يفدونه بأنفسهم فهو ينسجم معهم بتواضع وبلا استثناء، يتفقد أحوالهم ويراعي ظروفهم، يحثهم ويشجعهم ولا يبخل على أحد منهم بالتدريب والمران إنه: الأستاذ الهندي عز الدين - رئيس تحرير جريدة «الأهرام اليوم» وهذا ما دفعني أن أرسل مقالاتي لتُنشر في الصحيفة التي يرأس تحريرها. فإلى الأمام يا أستاذ وليوفقك الله لخدمة السودان وصحافته. كنت أتمنى أن أعمل في خدمة السيد المشير عمر البشير - في مجال المراسم بالطبع - ولكن عزائي بل يسرني ويسعدني أن من يقوم بهذا الدور أحد الإخوة من الشرفاء الأخ والزميل عاطف عبد الرحمن - مدير مراسم الدولة وكنا آنذاك نطلق عليه «دينمو المراسم» وقد اكتسب حب واحترام الجميع لصبره وسمو أخلاقه. أذكر أن السيد رئيس الجمهورية أتى لزيارتنا معزياً في وفاة شقيقنا الأكبر الحاج عثمان مراد فجلست بجانبه وبعد تلقي العزاء منه أحسست ومنذ الوهلة الأولى بإعجاب وتقدير تجاه سيادته وبأنه غير متعالٍ فاغتنمت فرصة الونسة معه وقلت له: «تعرف يا السيد الرئيس أن الإخوة السفرجية بالقصر الجمهوري كانوا يتبرمون ويعانون من آخر حاكم عام بريطاني كان مقيماً بالقصر حيث كان مولعاً بالصيد فيقضي أياماً وأياماً في حظيرة الدندر وفي جنوب السودان ويصحبهم معه، وذات يوم جلس اثنان منهم هما المرحوم محمد صالح، وقال لي نعم حضرته، ومعه زميله الأخ محمد أحمد أبوبكر أطال الله عمره، جلسا في ميدان النجيلة بالقصر وقرب شجرة الجميز ينظران إلى غرفة الحاكم العام بالطابق العلوي فسأل محمد صالح قائلاً: إنت يا محمد أحمد الراجل ده بعدين بروح الجنة ولا النار؟ فقاله له: «ودي آيزه كلام بروح النار» فيرد: «الهازوق- أي الخازوق- يكون آيز معاهو سفرجية كمان فوق»؟ وقلت أيضاً يحكي لي أحد الأصدقاء من الحلفاويين أن عماً له طاعناً في السن دخل، وبعفوية مطلقة، إحدى المحاكم وكانت في حالة انعقاد وهو يتوكأ على عصا أطول منه فإذا بالقاضي يقول له: «يا عم إنت تدخل الجلسة بدون استئذان وكمان في إيدك عصاية»؟ فيقول للقاضي: «وفيها إيه يا مولانا ما سيدنا موسى إتكلم مع ربنا وهو ماسك عصاية». فيضحك القاضي ويقول له: «لكن إنت سيدنا موسى»؟ فيرد عليه: «وإنت يا مولانا يعني رُبنا؟!» { لي ذكريات وذكريات مع التدخين خلال رحلتي مع البروتوكول سأذكر بعضاً منها: { في أول مرة أزور فيها المملكة العربية السعودية كانت في بداية السبعينات مع الرئيس الراحل جعفر نميري - طيَّب الله ثراه - وقد تفضل وجاد علينا جلالة الملك الصالح فيصل بالسماح لنا بدخول الكعبة المشرفة بمكة والحجرة النبوية الشريفة بالمدينة المنورة. في داخل الكعبة صليت ركعتين في كل الاتجاهات إحداها كانت قرب جعفر نميري، ولِمَ لا ونحن في بيت رب الناس، فإذا بالمرحوم الأستاذ محمد خوجلي صالحين، عضو الوفد ومندوب الإذاعة السودانية، والرجل تربطني به صلة مصاهرة، إذا به يقول لي وبصوته الجهوري: «تعال يا نبيل التصق بباب سيدنا إبراهيم وادعُ». وقد رأيت باباً من الخشب مسنداً على أحد جدران الكعبة ولم أستطع أن أتمعن فيه جيداً فالضوء خافت ولا توجد إضاءة داخل الكعبة إنما الإضاءة منبعثة من الخارج، فالتصقت بالباب ودعوت ما شاء لي ومن بين دعواتي أن يتوب الله عليّ من التدخين وظننت أن الدعوة ستكون مستجابة وعاجلة من قبول رب العالمين فأنا أطلبها منه في داخل بيته الحرام- أول بيت وُضع للناس- ولكن أدخن! فتحسست أقدامي بعد ذلك وراجعت نفسي كثيراً ولكن «إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ». { عند زيارة نميري للندن وكنا بفندق «دور شبستر» العتيق القابع قرب حديقة هايد بارك، فكنت أتبادل السجائر مع أعضاء طاقم الحراسة الإنجليزي ونتجاذب أطراف الحديث والضحكات والنوادر وعندما أتت إشارة من قصر باكنجهام بأن الملكة ستستقبل الرئيس نميري والعدد الكلي فقط خمسة وهم السيد الرئيس، ووزير الخارجية، والعميد أ.ح عبد الرحيم سعيد وكان وقتها كبير الياوران، والسكرتير والخامس المراسم العبد الفقير إلى الله فلم يكن بالوفد رجل مراسم إلا سواي. دخل الرئيس ووزير الخارجية لمقابلة الملكة وبقينا نحن الثلاثة مع رجال الأمن الإنجليز قرب مكتبها، وبكل بساطة أخرجت علبة البنسون الكبيرة وأشعلت منها سيجارة فإذا بالإنجليز ينظر كل منهما إلى الآخر ويرمقونني أنا بنظرات كراهية وبحثت عن مطفأة سجاير بعد ما استطال رمادها فلم أجد، نظرت إلى الأرضية لأدوسها فإذا بها مغطاة بالكامل بسجاجيد تغوص فيها الأرجل ولا يمكن أن أغادر مكاني. الكل بات ينظر وينتظر ماذا سأفعل فأفرغت التسع عشرة سيجارة في جيبي وأطفأت السيجارة في العلبة الفارغة وهنا ضحك الجميع وأخبروني أن قصر باكنجهام به أكثر من ثلثمائة غرفة، وغرفة واحدة فقط يسمح فيها بالتدخين وتبعد كثيراً عن جناح الملكة. { كنا عائدين من مدينة الأبيض بالطائرة الهل والجو حار جداً لذا فالطيار كان يطير بها عالياً وداخل الطائرة خزان وقود إضافي يجلس أمامه رئيس الجمهورية والنظارة الشمسية في عينيه فظننته نائماً والكل في صمت فذهبت إلى نهاية الطائرة وبعيداً عن تنك الوقود أشعلت سيجارة بحذر شديد وبعد «نفسين ثلاثة» إذا بدخان السيجارة يتجه مباشرة إلى جعفر نميري! أطفأت السيجارة وفتحت إحدى نوافذ الهيلكوبتر فإذا بالهواء يلج إلى داخل الطائرة بعنف شديد ويأتي مساعد الطيار ويقول لي «يا نبيل داير توقعنا»؟ قلت له يا أخي إنتو ما بتطيروا بيها والباب مفتوح فقال لي نعم ولكن ليس في الطبقات العليا لأن الضغط الجوي كذا وكذا... كل هذا ونميري لم يقل شيئاً فقد كان نائماً. وهأنذا اليوم عزيزي القارئ أعاني من آثار ومضار التدخين حيث لا أقوى على الحراك إلا وتوصيلة أسطوانة غاز الأُكسجين في أنفي طول الوقت. وقد ركبت كل أنواع الطائرات تقريباً باستثناء الكونكرد واليوم فإن ركوب الطائرة أصبح يهدد حياتي بعد ارتفاعها لأكثر من ثمانية آلاف قدم وكل هذا بسبب التدخين.. قاتله الله. { كنت رامبو قبل العميد يوسف عبد الفتاح أُطلق على يوسف ألقاب كثيرة أذكر منها رجل الإنجاز والمقدم راجل يوسف عبد الفتاح وأيضاً رامبو. وقد نال لقب رامبو عندما طارد أصحاب المواشي بالطائرة الهيلكوبتر بعد أن توجهوا إلى الخلاء بمواشيهم عقب قيام الانقاذ مباشرةً، وأراد العميد يوسف أو الرائد يوسف إنقاذ الموقف وقد قبل بعض أصحاب المواشي وقفلوا راجعين إلى العاصمة والآخرون يمَّموا شطر الوديان والخلاء فطاردهم يوسف وهو على متن هليكوبتر ولم يكن يصبر حتى يستقر الهل على الأرض فيقفز ويجري وراءهم وكان يسمع «ها زول عليك أمان الله ده بعمل زي الفي تلفزيون» ومنها هنا أطلق عليه اسم رامبو. وقد حدثت لي حادثة مشابهة لهذه قبل سنوات - مع الفارق في السببين- فعند زيارة الرئيس الراحل جعفر نميري إلى الإمارات العربية المتحدة وكان برفقته طوال الزيارة سمو الشيخ الراحل زايد بن سلطان آل نهيان - رحمه الله - كنت على متن إحدى طائرات الهيلكوبتر عائدين من إحدى الإمارات ولم أكن آلف لحم الإبل الذي يقدمونه في صينية ضخمة مليئة بشتى أنواع الأرز والدجاج والحمام المحشوان بالفريك، وكما ذكرت فإنني لم أذق لحم الإبل طيلة حياتي، فإذا بأمعائي تصرخ وتولول وتكاد تنطق وبالذات عندما تتهادى الطائرة، كان موقفاً عصيباً لا أُحسد عليه ومعي بعض الإخوة أعضاء الوفد يشاركوني نفس الشعور ولا داعي لذكر الأسماء.... فأخبرت قائد الطائرة بالحاصل علينا فتوجّه بها قبل الهبوط إلى ركن قصي داخل حوش المطار وقبل أن تحط الطائرة على الأرض وكاد الكيل أن يطفح كنت قد وثبت وجري إلى الحمام وباقي الإخوة من ورائي. { في عام 1973م وعقب اتفاقية الوحدة بين الشمال والجنوب أُقيم احتفال كبير بمدينة جوبا حضره الإمبراطور هيلا سيلاسي، وعند نهاية الاحتفال إذا بنا نفاجأ بأن طائرة الخطوط الجوية السودانية التي ستقلنا إلى الخرطوم قد غاصت في طين بمدرج مطار جوبا!! وفشلت كل محاولات إخراجها وكان منظراً يثير الضحك فتكرم علينا الإمبراطور بطائرته الثانية التي درجت على الطيران معه في كل رحلاته وأذكر أنه كانت بها طيور داجنة ومواد تموينية مختلفة. { لي حكاية مع أحد السفراء الأجانب بالخرطوم لا داعي لذكر اسم دولته واحتفظ لنفسي بالسبب: قمت بصياغة وإرسال تهنئة من رئيس الجمهورية إلى رأس دولته بمناسبة عيد ميلاده الذي يوافق عيد جلوسه ولكن غفلت وأخطأت وأقر بخطأي؛ إذ أرسلتها قبل شهر بالتمام من موعدها المحدد فإذا بالسفير يطلب مقابلة د. منصور خالد وكان وقتها مساعد رئيس الجمهورية لشؤون التنسيق ووزير الخارجية وله أيضاً مكتب في القصر. استقبلت سعادة السفير من أمام بوابة الديدبان بشارع النيل وتجاذبنا أطراف الحديث وكلمات المجاملة ونحن في الطريق فأدخلته على منصور خالد وجلست مع الأخ السفير عمر شونه مدير مكتبه فإذا بالمرحوم عبد الرحيم سعيد، وكان في ذلك الوقت وبالتحديد مدير مراسم الدولة والسفير إبراهيم محمد علي رئيساً لمراسم الدولة، إذا به -رحمة الله عليه - يقول لي: «ماذا فعلت؟ منصور قال عايزك تجيهو الآن». فدخلت فإذا به يقول لي: آ.. أنت أرسلت تهنئة باسم الرئيس لهم قبل شهر من موعدها وقد اعتبروه فألاً سيئاً ولن يقبل السفير إلا أن تعتذر» فقلت لهم: «بس كده؟ ده أنا أعتذر وأعتذر» فانفرجت أسارير السفير وقلت له الكلمة الوحيدة التي أعرفها في لغته وكنت أحسبها تعني «لك العتبى» ويا للهول فمعناها «وداعاً»، فما برح الرجل يضحك. والحديث عن رامبو أو العميد يوسف عبد الفتاح حديث ذو شجون، تجدر الإشارة إلى إنني خبرته منذ طفولته حيث كان هادئاً كثير الصمت، وفي صباه كان معتزاً بنفسه ولا يرضى أقل إهانة من أيٍّ كان بدليل كنا نذهب إلى السينما سلوتنا الوحيدة ونطبق في اليوم التالي - أي نمثّل- ما شاهدناه في فيلم الأمس- فأفرض عليه أن أكون أنا البطل وهو الخائن فكان يرفض بشدة قائلاً: لا اعتراض على بطولتك لكني آبى على نفسي أن أكون خائناً». وفي شبابه كان وطنياً وثائراً أذكر في عام 1964م عند اندلاع ثورة أكتوبر وبعد حادثة إطلاق النار بساحة القصر الجمهوري إذا بيوسف ينوي الذهاب لموقع إطلاق النار فتوكلت أنا علي الحي الذي لا يموت وذهبت معه وبالفعل رأينا بعض الجثث ملقاة على الأرض والبعض الآخر تم نقلها إلى ثلاجات مستشفى الخرطوم وتوجهنا أيضاً هنالك وتصور أيها القارئ الكريم لأول مرة في حياتي أرى أمواتاً وقد تشوهت معالم الشهداء - تقبّلهم الله قبولاً حسناً - وظللت لأيام «لا أنام» أما هو، فيا للعجب، فقد كان ثابتاً ومنفعلاً لما حدث، كل رجال عائلتنا أصبحوا يبحثون عنا وفي طريق عودتنا إلى البيت وجدنا جنازة في طريقها للدفن ولا ندري لمن هي فأمسكت أنا ومعي يوسف بأرجل العنقريب وفي الطريق إلى المقابر وكنا نتبادل يوسف وأنا حمل العنقريب إذا بأحد أشقائي يرانا فيصرخ ويهلل ويكبر مما أثار تعجب حاملي النعش.