حين كانت ثورة مايو 1969م تؤسس لفكرها، دخل إلى السودان فكر جديد قوامه أن لا ديمقراطية بدون لجان شعبية، والحزبية إجهاض للديمقراطية، وشعاره المؤتمرات في كل مكان ومن تحزّب خان. كان وراء ذلك أحد أبرز قيادات الحركة الإسلامية السودانية في بواكيرها. وكان أن تتعاطى «الكتاب الأخضر» كأنما تعاطيت الممنوع؛ إذ وصفه الرئيس الراحل جعفر نميري وقتها بأنه بطيخة خضراء من الخارج وحمراء من الداخل. جاءت الإنقاذ في 30 يونيو 1989م وكان نظام المؤتمرات أحد خياراتها السياسية من بين ثلاثة خيارات تم طرحها، هي: الحزب الواحد والتعددية المنضبطة والمؤتمرات الشعبية ووقع الاختيار على الأخيرة. وكان ضيفنا الذي نحاوره أحد الذين صاغوا بفكرهم وتجربتهم العميقة ميثاق السودان السياسي الذي أسس لسلطة الشعب، وكان شعار الإنقاذ في بواكيرها الحاكمية لله والسلطة للشعب. وبدأ تطبيق نظام المؤتمرات وأسهمت حركة اللجان الثورية كثيراً في ذلك، رغم القول بأن التجربة السودانية لنظام المؤتمرات ليست هي التجربة الليبية، ثم انتقلت تجربة الإنقاذ إلى نظام الحزب الواحد ثم دخلت في مرحلة التوالي السياسي وسقطت تجربة اللجان الشعبية والمؤتمرات، وجاء التأسيس من جديد لنظام حزبي مفتوح، ومضت البلاد نحو التحول الديمقراطي والتعددية الحزبية الواسعة وجاء الانفصال وأمامنا دولتان؛ دولة الجنوب ودولة الشمال، فأين تتجه أفكار ومواقف عبد الله زكريا مؤسس حركة اللجان الثورة في السودان في هذا الظرف؟ مساحة من الحوار حول الراهن السياسي جمعتنا به لاستجلاء الموقف فبدأنا بالسؤال: { كيف استقبلتم نتيجة الانفصال كوحدويين؟ - هذه النتيجة غير الحقيقية كانت بسبب اختطاف الجنوب من قبل (120) من الصفوة الدينكاوية في الجنوب. فهؤلاء الصفوة ليسوا بالجنوبيين إنما هم مسخ أمريكي أوروبي إسرائيلي، فهذا الانفصال هو ضد الجغرافيا والتاريخ وسيعود الجنوب آجلاً أم عاجلاً بقوة الجغرافيا والتاريخ والحياة المشتركة عبر القرون؛ إذ لا يمكن لقبائل الجنوب أن تظل تحت نخبة دينكاوية لا تمثل حتى العشائر الدينكاوية في الجنوب. هذا الاختطاف سيؤدي إلى رفض جميع قبائل الجنوب بما فيها قبيلة الدينكا لاستمرار هيمنة هذه النخبة الدينكاوية المعزولة بسبب احتكارها السلطة والثروة والسلاح منذ العام 2005م. هذه الصفوة التي تقف معها أمريكا لتحقيق غايتها في فصل الجنوب لحل مشكلة داخل أمريكا، فقبل أشهر اقتنعت أمريكا والاتحاد الأوروبي وإسرائيل إنه إذا انفصل الجنوب فسيتحول الجنوب إلى رواندا والصومال مجتمعين، وبعد ذلك جرت الانتخابات النصفية للكونغرس الأمريكي وكان القرار أن يُرجأ الاستفتاء لجنوب السودان لمدة ستة أشهر لتثبيت سابقة؛ ذلك أنه إذا أُرجئ الاستفتاء لمدة ستة شهور يمكن أن يتواصل الإرجاء والتمديد، ولكن الانتخابات النصفية للكونغرس الأمريكي أفقدت أوباما السيطرة على الدولة الأمريكية فرأى الحزب الديمقراطي أن أوباما الذي فشل في العراق وأفغانستان وفي الأزمة الاقتصادية داخل أمريكا لن يستطيع تحقيق أي إنجاز إلا إنجاز خارجي، وكان قرار الحزب الديمقراطي الأمريكي هو فصل الجنوب ثم تكليف الجهاز الإعلامي الأمريكي الجهنمي بتصوير أوباما للمسيحية الصهيونية ولمجموعات كبيرة من السود أنه حقق إنجازاً كبيراً، بأن أعطى الأفارقة في الجنوب دولة منفصلة، وبالتالي فإن انفصال الجنوب جاء لحل إشكال داخل أمريكا ولا علاقة له بالسودان. فهذه الصفوة الدينكاوية التي ورّثتها نيفاشا جنوب السودان أدت دورها وتستطيع أمريكا أن تتخلى عنها في أي وقت، ولكن التخلي الحقيقي أنها قامت بحروب ضد جميع القبائل دون استثناء. { ما هو برنامجكم ودوركم القادم إذن؟ - نحن في حركة اللجان الثورية نبهنا إلى حرب الجنوب - الجنوب منذ شهر يوليو الماضي؛ لأن الصفوة الدينكاوية التي احتكرت السلطة والثروة ستستمر بما يعني أن انفصال الجنوب هو انتحار لهذه الصفوة، ولا أمل لهذه الصفوة أن تغير من نفسها أو ترى الحقائق على أرض الواقع وستظل متمسكة بالمزايا التي مكنتها من اختطاف الجنوب. إذن فالثورة هناك ستكون مستمرة ضد هذه الصفوة وهذه الثورة ستؤدي إن آجلاً أو عاجلاً لإعادة توحيد السودان. { حسب معطيات الواقع ستكون هناك دولة جنوبية بعد أشهر قليلة، كيف ستتعاملون معها؟ - نتعامل معها بالطريقة التي تسهل عودة الجنوب إلى السودان، فالجنسية السودانية قبل الاستفتاء هي لكل السودانيين في الشمال والجنوب، وهذه نقطة أساسية وجريمة في حق إنسان الجنوب أن تنزع منه جنسيته بالمولد والأرض والتاريخ والجغرافيا، هذا أولاً، وثانياً لا بُد من العمل للوحدة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. { هل تحديداً أنتم، كفصيل سياسي وتنظيم، ستمارسون نشاطكم أيضاً هناك في دولة الجنوب؟ - لن تكون هناك دولة، وهذا الحدث الذي تم بإعلان نتيجة الاستفتاء أكثر ما يعنيه هو انفصال سياسي، ولكن مقومات الوحدة موجودة سنحافظ عليها وندعمها ونقويها إلى أن يتم توحيد السودان من جديد. { بالنسبة للحِراك السياسي الداخلي والاختلافات في الرؤى بين الحكومة والمعارضة، فالأولى تدعو للمشاركة من خلال القاعدة العريضة والثانية «المعارضة» تنادي بحكومة قومية وخلافه، فأين تقفون أنتم هنا؟ - نحن كلجان ثورية لا نؤمن بالصراع على السلطة، وما يجري الآن بين الحكومة والمعارضة صراع ليس له معنى، فنحن لا نؤمن إلا بالسلطة لكل أفراد الشعب، فنحن لسنا مع الحكومة ذات القاعدة العريضة ولا الحكومة القومية، بل نحن أصحاب خيار ثالث هو الديمقراطية المباشرة القائمة على أساس القاعدة في المؤتمرات الشعبية الأساسية واللجان الشعبية في الأحياء والمدن والقرى والفرقان. هذه اللجان الشعبية الموجودة الآن بقوة القانون فعلى المؤتمر الوطني، وهو يمسك الآن بمفاصل الدولة، أن يغيّر من نظرته للسياسة وأن يجدد ويمكّن ويفعّل الديمقراطية المباشرة في القاعدة. { أين خارطة الأحزاب إذن هنا؟ - نحن كلجان ثورية نقسم الشعب السوداني إلى قسمين: القسم الأول هو الشعب السياسي وهذا يضم آلافاً ممن يصارعون بعضهم البعض على السلطة ولكن هناك الشعب الحقيقي الذي يوجد في أماكن سكنه وعمله، وهؤلاء لهم حق في أن تُسمع آراؤهم وتُقدر طموحاتهم في المجتمع الذي يريدون أن يعيشوا فيه بألاّ يكون هناك احتكار للسلطة السياسية إطلاقاً. { لماذا نجد عبد الله زكريا دائماً مهاجماً الأحزاب التقليدية والبيوتات السياسية الطائفية؟ فالملاحظ إن كل قولك دائماً يصب في هذه الزاوية، ما الحكاية؟ - أنا لا أعترف بالشعب السياسي إطلاقاً. { الآن الأحزاب المعارضة توحّدت جميعها وقدمت الصادق المهدي للحوار مع الحكومة، كيف تنظر إلى هذه الخطوة؟ - الصادق المهدي لا يمثل إلا نفسه، وأنصح الحكومة بإعادة النظر في البرنامج السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي، وأقول إن مشاركة هؤلاء في الحكومة «أحزاب التحالف» أو عدم مشاركتهم هو شيء واحد، أي أن المشاركة من عدمها لا تفرق. { ماذا تقول إذن في تحالف المعارضة الذي يضم عدداً من الأحزاب وينطق باسمه فاروق أبو عيسى؟ - هؤلاء جميعهم سُرّاق سلطة، فجميعهم يقعون في دائرة الصراع على السلطة وهذا الصراع ليس له نتيجة إلا تدمير المجتمع. فمن قال إنه لا بُد من أن تكون في حياتنا السياسية حكومة أو معارضة؟ ولمصلحة من؟ هل للسوداني البسيط أم الأحزاب السياسية التي همّها السلطة؟ { هل انتهى زمن الرموز؛ الصادق المهدي والميرغني والترابي؟ - بالفعل انتهى زمن الرموز. { ما يحدث في تونس ومصر وللحزبين الحاكمين هناك، ألم يزحزح ذلك حركة اللجان الثورية في كرسي فكرها ويجعلها متململة في موطن نشأتها، ما هو ردكم هنا؟ -بالعكس ما حدث في تونس ومصر هو تأكيد على ما تؤمن به اللجان الثورية أن المستقبل للشعوب وليس للأحزاب الطوائف والطبقات. { هل تتوقع أن يحدث صراع أيدولوجي في الجنوب بعد أن اقترب من إعلان الدولة؟ - ليس صراعاً أيدولوجياً ولكنه صراع قبائل في هذه المرحلة ضد دكتاتورية النخبة الدينكاوية. { ماذا إذن عن أبيي والمشورة الشعبية؟ - هذه هي مزبلة نيفاشا، وبعد انفصال الجنوب يجب أن نفكر في الوحدة الشعبية في شمال السودان برؤية صحيفة تمكن الجماهير من لعب الدور الاساسي في تنظيم الحياة وفي الاشتراك في التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وهذه هي دعوات الرئيس عمر البشير ونحن في حركة اللجان الثورية نتمسك بشخص البشير. { هل ستشاركون في الحكومة الواسعة؟ - سنشارك بقوة كفكر وكبرنامج نضالي وكرؤى سياسية سواء نلنا مناصب رسمية أو لم ننل، ونحن إنقاذيون. { الآن الانفصال صار واقعاً فبماذا تنصح هنا؟ - التشديد على علاقة السلام المستدام بين الشمال والجنوب والتأكيد على الوحدة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وجعل التواصل عبر إقليم التماس وانسياب الحياة الطبيعية بين قبائلنا الرعوية الأساس للوحدة القادمة.