لا يزال المجتمع مستغرباً حادث هروب قتلة غرانفيل المحكوم عليهم بالإعدام شنقاً حتى الموت من داخل سجن كوبر، ذلك الحصن المنيع الذي لم يستطع أي شخص تجاوزه، ما عدا أولئك الشباب الذين يتهمون بالانتماء إلى جماعات متشددة، وهربوا بصورة لا تشاهدها إلا في أفلام (الأكشن)، حيث اتخذوا من مجاري الصرف الصحي معبراً إلى الحرية خارج أسوار السجن. المحامي عبد الله علي محمد، كان ضابط شرطة سابقاً، وقد تكفل بالدفاع عن مدير السجن في القضية، ونجح بفضل الله في أن يرد الظلم عنه، وكان من خلال دوره في الدفاع قد وقف على التفاصيل الدقيقة لعملية الهروب التي كتبها بنفسه تحت عنوان (الهروب الكبير)، ومرافعته في استئناف الحكم الذي أصدرته المحكمة العسكرية في حق ضباط السجن، فمعاً إلى القصة: (كوبر) سجن اتحادي، ويوصف بأنه (أسود)، ويودع فيه منتظرو المحاكمات في الجرائم الخطيرة التي تصنف درجة خطورتها بالعقوبة التي وضعها المشرع لردع الجاني والحد من خطورته.. حمايةً للمجتمع، والمحكوم عليهم بعقوبة استئصالية كالإعدام أو السجن المؤبد، أو أية عقوبة مدتها تزيد عن العشر سنوات. وصف سجن كوبر الاتحادي بأنه (أسود) لأن به يحفظ الجناة من المنتظرين الخطرين إلى حين المحاكمة، أو لقضاء وتنفيذ عقوبة الإعدام أو السجن المؤبد أو العقوبات السالبة للحرية ذات المدد الطويلة، فكان أسود لأن مَن بداخله إما أن يعدم أو يبقى فيه دون خروج لمدة لا تقل عن عشرين عاماً في حالة (التأبيدة). أنشئ سجن كوبر في عام 1905م من القرن الماضي، على يد الاستعمار الإنجليزي، وكان تصميمه بدراسات هندسية متقنة تمنع هروب من بداخله.. وهو مقسم إلى أقسام داخلية، كل قسم له سور منفصل بارتفاع لا يقل عن ثلاثة أمتار، وكل قسم له عدة زنازين أبوابها من الحديد الصلب يصعب التعامل معها بالأيادي المجردة، وكل زنزانة بها ترباس من الحديد الصلب مصمم لدخول طرفه في حائط فولاذي بجانب الباب الفولاذي، لا تلحق به يد من بالداخل، حتى ولو امتدت يد المحبوس لفتح القفل. كما أن كل بوابة بذلك القسم على حراستها رجال سجون مدربون ردحاً من الزمن على أعمال السجون، يعملون تحت إمرة ضابط مدرب على التعامل مع السجناء رقةً وشدةً حسب التصنيف عند المقابلة الأولى، وبعد الاطلاع على ملف السجين الذي دوماً يكون شاملاً، وغالباً ما يسهم القضاة في إعداده، ويساعد في ذلك مدير الدائرة الفنية القائم على التصنيف لتحديد الطريقة المثلى للتعامل مع النزيل.. من خلال التوجيه أو التقرير المكتوب من القاضي في ملف السجين. يفصل ما بين القسم والقسم الآخر حائط مشترك، بمعنى أن السجين الذي يخرج من القسم من داخل زنزانته عبر بوابتها المؤمنة يجد نفسه داخل سور يحرس بوابته حراس مدربون.. وإن تسوّر الحائط الذي يبلغ ارتفاعه ثلاثة أمتار يجد نفسه في قسم آخر يتمتع بذات المواصفات الأمنية المشددة، فإن تصادف أن القسم الذي يحبس فيه النزيل موقعه قريب من السور الخارجي يصطدم بحائط السور الخارجي الذي يبلغ ارتفاعه حوالي أربعة أمتار يقف عليه (ديدبان) مسلح متحرك على السور جيئة وذهاباً، عينه لا تغفل عمن بالداخل من السجناء يرصد حركتهم وتحركاتهم طيلة مناوبته التي تمتد لساعتين دون غفلة. وفوق كل ذلك فإن السجن من الخارج تحرسه عربات دورية من رجال شرطة مدربين على أعمال الشغب وصد الهجمات الخارجية على من بالداخل، ويتبعون لإدارات مختلفة يتناوبون على أعمالهم بدقة وإتقان شديدين، لذلك سجن كوبر الاتحادي يصعب على من بالداخل الخروج منه إن دخل بالطرق التقليدية، وذلك لرصد وتأمين كل من بالداخل برجال مباحث سجون يرصدون تحرك كل نزيل يفكر في الهروب التقليدي، كما يصعب على من بالخارج اقتحامه، وتختار وزارة الداخلية أميز الضباط لإدارته من كوادرها المؤهلة والمتخصصة والمتخرجة من أعرق كليات السجون في العالمين العربي والأفريقي، وهي كلية متخصصة لتخريج منسوبي ضباط السجون المؤهلين، لكنها وللأسف وبعد نظام الشرطة الموحدة قد تم إلغاؤها وأصبح الخلل في التأهيل لمتخصصين أثره الواضح الجلي في نوعية الكادر المتخرج من كلية الشرطة الموحدة، التي تخرج ضابط جنايات وضابط سجون وضابط جمارك وضابط دفاع مدني يتم نقلهم إلى الإدارات المختلفة ككادر بشري فقط، يفتقدون إلى التأهيل المتخصص فيصدم ضابط الجنايات - الذي أرسل أحد الجناة إلى السجن - عندما يجد نفسه يوماً ما ضابطاً في السجن، يعمل مشرفاً على تنفيذ حكم على من تحرَّى معه سابقاً، فيضعف الشعار (السجن إصلاح وتهذيب وتأهيل) الذي كانت تطبقه كلية السجون قولاً وعملاً ميدانياً. جيء بقتلة غرانفيل الأمريكي وهم محكوم عليهم بالإعدام، وقام مدير الدائرة الفنية وسلطات السجن ومن واقع ملفاتهم بتصنيف درجة خطورتهم وعادة وحسب اللوائح فإن محكومي الإعدام تعد لهم زنازين منفردة ويتم تقييدهم بالسلاسل على أرجلهم، ولما كانت الزنازين عددها (52) زنزانة، كان عدد المحكوم عليهم بالإعدام عند سجن قتلة غرانفيل لا يقل عن (200) محكوم، ويشغل منسوبو حركة العدل والمساواة عدد (28) زنزانة، لتبقى (24) زنزانة، وبمحاولة حسابية.. نجد أن المتبقي من عدد الزنازين يستوعب فقط (24) محكوماً بالإعدام يراد تنفيذ الحكم عليهم بالإعدام حسب لوائح السجون، الأمر الذي جعل الدائرة الفنية تقوم بوضع المذكورين في زنزانة واحدة، وكان هو الخيار الصعب والأصوب من غيره من الخيارات، فجاء قرار الدائرة الفنية صائباً ينم عن دراية وخبرة فكان: 1/ تم وضع المذكورين في زنزانة واحدة داخل قسم يتوسط تماماً سجن كوبر وذلك ليصعب على من بهذا القسم محاولة الهرب، وكما أسلفت فإن القسم يصعب الخروج منه بالطريق التقليدي سواء عبر البوابات الرئيسية أو الحائط، وتزداد الصعوبة في تنفيذ عملية هروب تقليدية، ذلك لتوسط القسم كل مبنى السجن، وإحاطة أقسام أخرى به تفصلها عنه حوائط مشتركة. كما أن هناك كاميرات ترصد الحركة لأي نزيل داخل أي قسم يحاول الهروب بطرق تقليدية. 2/ أقرب مسافة لخارج القسم تبعد حوالي (45) متراً من مقر إقامة المذكورين، وهو حائط السجن الشمالي الذي يعلوه ديدابان متحرك ويراقب الحركة من على الداخل. 3/ هناك عربات دوريات مزودة بأسلحة رشاشة ومدفع هاون لصد الاعتداءات الخارجية. تم وضع المذكورين في زنزانة واحدة وذلك خوفاً من سريان تأثيرهم العقدي وأفكارهم المتطرفة إلى بقية السجناء فأصابت الدائرة الفنية في التصنيف.