سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    وزارة الخارجية القطرية: نعرب عن قلقنا البالغ من زيادة التصعيد في محيط مدينة الفاشر    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    ياسر عبدالرحمن العطا: يجب مواجهة طموحات دول الشر والمرتزقة العرب في الشتات – شاهد الفيديو    حقائق كاشفة عن السلوك الإيراني!    المؤسس.. وقرار اكتشاف واستخراج الثروة المعدنية    البيان الختامي لملتقى البركل لتحالف حماية دارفور    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    تجارة المعاداة للسامية    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بكائية في زمان الانفصال (1)


تمهيد للحظة البكاء
لا أعرف تحديداً كيف تصنع العين البكاء؟.. كيف تستدر ضرع الدموع؟.. كيف تسوقها من ذاك النبع الخفي فتهطل غزيرة مالحة، فتسيل على الوجه دافئة بعد أن تغسل الجفن ثم تثير الأنف فيسيل دمعاً لزجاً أشبه بمقدمات الرشح!! الدموع هذه أشبه بوضوء العين لصلاة الحزن الذي يصدّع الكبد ويحرق الفؤاد فيكون هذا التفاعل الكيميائي الرباني الذي أبدع صنع وعلم وظائف أعضاء الإنسان.
البكاء ليس فقط هذا الدمع الذي يسيل وإنما هو الوجع الوخَّاز الذي يصيبك فلا تملك إلا أن تشهر هذا الحزن بنشيد وهتاف البكاء الحزين.. عندها وبعدها يرحل عنك ثقل جثم على صدرك فتلجأ إلى الله راجعاً مسترجعاً مستغفراً، ولولا نعمة البكاء لانفجرت أفئدة واحترقت أكباد وغشي العمى العيون، وعشيت الأبصار وغشيت..
ورحم الله ابن الرومي الذي فلسف البكاء وعرَّف وظيفة الدموع يوم فقد واسطة عقد بنيه:
«بُكاؤكما يُشفِي.. وإنْ كان لا يُجدي..
فجودا فقد أُودي.. نظيركما عندي»..
هذا جَلَد في فقد وَلَد غلبت عليه رحمة البكاء..
ومالي استشهد بابن الرومي ولا أبدأ ببكاء المعصوم المجتبى الصامت يوم فقد ابنه إبراهيم:
«إنَّ العينَ لتدمع والقلبَ ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي الله.. إنا لله وإنا إليه راجعون»..
هذه التقدمة والتبرير لحالة البكاء التي جعلتني أكتب (بكائية في زمان الانفصال).. لا أكتبها طالباً سماحا - وإن كنت دائماً أرجوه - ولا اعتذاراً لضعف انتابني- ولمن اعتذر- عن رحمة تجعلني أبكي!.. ألم يستعذ الرسول صلى الله عليه وسلم من عين لا تدمع!؟.. وكيف لا أبكي وقد يبكي الناس جميعاً لفراق أخ أو ابن أو حبيب أو والد أو أُم؟.. وربما يبكي آخر لفراق قرية أو مدينة أو مدرسة أو فريق كرة قدم.. فكيف لا أبكي لفراق جزء عزيز من وطني بتره حق تقرير المصير، فقرر بتر (صُلب وأرجل السودان) باختيار الانفصال، ليصبح السودان جزئين: شمال قديم، وجنوب جديد ليصبح دولة..
أي عين ترى خارطة السودان بشكلها الجديد وقد حجب الانفصال فيها رؤية السوباط والزراف وبحر العرب، ولا يصيبها مرض فقد مناعة البكاء وتكلُّس الكبد وتصلُّب الفرح..
أي كبد لا يصدعها رؤية جوبا وقد قررت أن لا يدخل حدود دولتها الجديدة أبناء الشمال إلا وقد حصلوا على تأشيرة الدخول؟!..
ألا يعيد مثل هذا الشرط تأشيرة الدخول للمناطق المقفولة؟.. في زمان المفتشين الإنجليز..!!
لقد كنا نتحدث عن أن السودان تحدّه تسع دول.. ودولة الجنوب الجديدة تحجب عنا جواراً لبضع دول!! ألا يثير هذا الحنين لمناحة يبكيها كل نحاس ونائحة وثاكلة!!..
نعم أبكي.. «وليست النائحة كالثاكلة».. وأبكي لأني شريك أصيل في ما حدث ويحدث..
ربما يقول قائل ممن لم يرحمهم الله بنعمة الدموع.. ذوي الأكباد الصخر: «إنما تبكي الحبَ النساءُ»، وما ينبغي للرجال البكاء.. وهؤلاء (غُلف) القلوب.. غلاظ الوجوه هاجرت من شفاههم صدقة الابتسام.. «تبسُّمك في وجه أخيك صدقة»، وأنا أبكي متصدقاً في حق وطن كما تبسّمت في وجهه دوماً وهو وطن واحد متَّحد..
أطلتُ البكاء مبرراً هذه (البكائية) التي هي في واقعها استرجاع للزمن الجميل في حقبنا التاريخية المتعددة.. قصدت أن أطوف فيها مثل أُمِّنا (هاجر) لا أبحث عن ماء وإنما أبحث عن رفقة تشاركني هذا الفقد الجليل.. لهذا بكيت بعد أن أبلغت نبأ الانفصال لسلاطين وملوك السودان.. أقمت سرادق هو فسطاط السودان القديم كله، واستدعيت ملوك نوباتيا.. والمقرة وعلوة.. وأقسمت على مجيء ملوك كرمة وملكات مروي.. وملوك الفونج وسلاطين المسبعات، والثلة المجيدة من سلطنات دارفور.. وعرجت على سواكن وأبطال كسر المربع الذهبي ولبّى دعوة الحضور المهدي وخليفته الشهيد.. واحتضنت باكياً فرسان اللواء الأبيض وقادة مؤتمر الخريجين.. ووقفت مع قادة مؤتمر جوبا والمائدة المستديرة، واتفاقية أديس أبابا.. ودخلت البرلمان لأشهد لحظة إعلان الاستقلال المقترن بوعد (الفدريشن).. وطوّفت على «اتفاقية أديس أبابا»، ومؤتمر الحوار الوطني واتفاقية نيفاشا، ومصرع جون قرنق.. ثم الأعوام الانتقالية كاملة الصعود والهبوط... و...
هل مثلي أطالوا البكاء؟.. أم كان لنبأ الانفصال عندهم شأنٌ آخر!!
هذا ما ستفصح عنه جهيراً هذه البكائية، غير أنه يلزمني أن أوضح وأؤكد.. وأنا أكتب هذه «البكائية» أني لا أتنصل مطلقاً عن مشاركتي الفاعلة في صنع القرار السياسي؛ وزيراً ومستشاراً، وشاهداً حاضراً على اتفاقية نيفاشا.. ومشاركاً فاعلاً في تنفيذ بنودها وصياغة قوانينها وراضياً رضاءً حقيقياً عن أن يختار أبناء الجنوب حق تقرير مصيرهم، وملتزماً بقرار الانفصال الذي أصبح يقيناً.. لكني أملك حق أن أبكي واحتضن تاريخ وطني وأبلّغ هذا الحزن بهذه المقالات التي لا أبرر فيها مشروعية للحزن، وإنما ضررة يقتضيها هذا الحدث و«هذا أضعف الإيمان».
{ الصفحة الأولى:
كانت الهجرة من تخوم كرري حتى حطَّ الرَّحل في تلة تشبه (ضهر التور) عند مسيد (بأُم دبيكرات)، قد استغرقت أياماً من رهق وجوع وظمأ.. الأقدام تشكو وجع التورُّم جراء مشي أشبه بالسعي بين الخوف والرجاء.. والعيون مقرَّحة المآقي وقد هجر الدمع الجفون فأصبحت كبئر معطلة من سوافي الرمل وعاديات الأيام.. والصدور تغلي وتفور كما (تنُّور) نوح يوم الطوفان.. الخاطر محتل بمشهد المدفع يطحن عظام الدراويش كحبات الدخن في (مراحيك) الفرقان.. الدم والأشلاء والجثث والملابس المرقطة والدم عليها يصرخ فتغدو مناحة لصبي عريس..
موكب الخليفة جريح الكبرياء.. كلمة (موكب) تبدو غير مناسبة، ولكن جلال الرجل ووجهه الملتحي بالشيب الرمادي كأنما رضع ثدي رماد.. وأنفه التي مرغها في السجود صلاة جامعة في صحن المسجد طوال ثلاثة عشر عاماً غدت كمئذنة، (المسبحة) لا تعرف ركوناً أو انكساراً.. يمضغ حبات (القرض) في استمتاع كأنما (القرض) رمانة من جني الجنة.. و(المسبحة) تكرُّها أصابع عرفت يتقلب (اللالوب) بين أصابع ما انغمست في طعام حرام.
(فَرَشَ) (الفَرْوَة) رفيقة الدرب..التي ذهب بعض الشَّعر منها جراء السجود والركوع والقيام، فأصبحت هرمة عجوزاً كأنها لم تكن تلك التي تغار منها (عجميات السجاد).. الفروة سلخت من جسم (ثور) شبع من حشائش (رهيد البردي)، واختيرت بعناية هدية لخليفة المهدي.. وكأنما خلق الله ذاك الثور ليكون جلده (الفروة) التي تشهد مصرع الشهيد..
في الركعة الأولى تلا بعد الفاتحة (سورة النصر)، وهو المهزوم مادياً بجيش الفتح، والمنتصر شهادةً.. فداء دولة ودين وجهاد..
في الركعة الثانية قرأ (سورة الناس)، يشكو ظلم بعض الناس لربِّ الناس..
في جلوس (التشهد)، تشهد ثلاثاً، ثم تلى التشهد وكأنه يستطعم طعم كل حرف.. حتي إذا ما أتى الصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم)، في الصلاة الإبراهيمية دمعت عيناه وغامت على الوجه ابتسامة رضا كمن رأى مقعده من الجنة.. ثم اعتدلت رقبته ليسلم السلام، حتى إذا ما مال نحو اليمين ارتجف نصفه اليمين كمن يذوق طعم الموتة الأولى.. وصرف العنق من اليمين نحو اليسار، فالتصقت الكبد بالرئة.. فأسرع بالسلام!!..
وقبل أن يبدأ (التسبيح) استقرت بضع رصاصات في مكان الكبد.. وخرَّ ساجداً.. شاهقاً ناطقاً (بالشهادة) التي زلزلت أركان (أُم دبيكرات).. وكسرت كبرياء (ونجت باشا) الذي تقزَّم أمام الشهيد.. باشا بلا (باشوية)، ورأى في الجثمان المُسجَّى (حوش الخليفة)، و(الطابية)، وكل مآذن السودان ترفع النداء مصحوباً برِزِم نحاس من جلوس الفهود والزراف والغزلان، وحُمر الوحش، رِزِم مخنوق وفصيح!! وفيه لهجات تداخلت بين المحس والارتيقا، وقبائل (الهمج)، ولغة (الكاجا)، وفصاحة (النوير).. رأى (ونجت) المخذول بالنصر الكاذب رأس النيل ينبع من فم الخليفة، فيملأ الرهدان وينسرب طرباً في سهول البطانة، ويبطئ السير في مستنقعات الجنوب..
تعجب (ونجت الجنرال) في لغة الشهادة التي جعلت النيل يمشي من الشمال نحو الجنوب.. (الجنوب) ليس جهة في لغة الجغرافيا، وإنما كيان إنساني كامل التكوين.. بقدمه اليمين يمشي النيل، وبقدمه الأخرى يكتسب النيل الطمي.. (الجنوب) سر الفتح، وخاصرة الأمر القادم في أجندة الجنرال!!!..
صعدت الروح الطاهرة إلى أعلى الفراديس.. و(ونجت) يقرأ قصيدة (فظي.. وظي) ل(اللورد كبلنغ)، وطوى درويش مفجوع جريح (الفروة) كمن يطوى من السودان كل الجنوب!!.. وتمتم بكلمات تناثرت في فضاء زمان ومكان.. تحكي غربة وطن غادر خليفته وإمامه الدنيا والسودان كامل التراب!! فكيف إذن؟!؟.. لم يقدر الدرويش على تتمَّة الكلام..!!
{ الصفحة الثانية:
في حي (الموردة) وكان النيل يومها يلتصق بالسكان التصاق القوارب القادمة من الجنوب، تحمل شحنات الكتل الخشبية من أشجار الزان والريش وجلود الوعول وأنياب الأفيال..
(الموردة) حي جثا عند ركبة النيل عند مدخل (البقعة)، بقعة نقية التراب.. حمراء بلون خجول الحُمرة كلون الدم عندما يطمره التراب أياماً، ثم تزيح هبوب رخوة عن وجهه التراب فتبهت الحُمرة القانية، ويشوبها فتور الألوان عندما يجلدها حر الصيف بسياطه اللاهبة.. تربة قوية متماسكة كأن الأسمنت استوطن شرايينها وأوردتها.. ويصبح عسيراً جداً كسر حيطانها بعد البناء..
سكان هذا الحي هم مزيج من أجناس دفعت المهدية بهم مجاهدين.. مهاجرين وأنصاراً.. ومثل تربة أُم درمان.. طينة الأصل فيهم حمأ مسنون.. ارتوى من (بحر أبيض)، حتى فاض في وجوههم، فتماسك الطين والنُّطف النجيبة، وتخلَّق إنسان متفرد التكوين.. جمع الدم والألوان من ترك ودينكا وعمراب ومحس وجموعية وركابية ونوبة.. وكان الوصف (إنسان أم درمان)..
(أم درمان)، (صُرّتها) الموردة، ولها أحياء تشابه الموردة، كأنها استنساخ منها، أو منها تم استئناس الموردة واستنساخها!!
في ضحى من يوم الجمعة.. اجتمع بعض من أبناء السودان المسكونين بحب النيل والأرض التاريخ.. متعلمين، لأن صفة المعرفة والتعلم والشوق لصنع التاريخ هي التي جمعتهم يوماً (أفندية).. كما كان يُطلق على من يختارون العمل في الحكومة.. (خريجون) كما كان وصفهم بعد خروجه من المكاتب في الأماسي، فيما اصطلحوا على تسميته (النادي)، وفيه يمضون المساء وكل الليل.. (متمردون) كما تصفهم أقلام الاستخبارات إن وصل همسهم لأذن المتلصصين، وشباب لأن جذوة وشرارة الثورة فيهم في تمام الفتوة والاشتعال..
وخلص الاجتماع العشرين لميلاد (جمعية اللواء...) اختيار اللون الذي يناسب هذا اللواء اقتضى خيارات عدة، استقرت عند اللون الأبيض.. تأسست (جمعية اللواء الأبيض) تعكس فروع النيل الأبيض (علي عبد اللطيف)، وكأنه بحر العرب دينكاوي، صقيل البشرة كشجرة الأبنوس.. عنيد في الحق، شديد الاعتداد بجنسيته السودانية التي تربطه بخط الاستواء ومدار الجدي، التي تجعل لسانه عربياً فصيحاً، ولهجته الدينكاوية معضددة التكوين، إنسان السودان عربي الهوية والتوجُّه، فهو لا يكتفي بسودان موحّد إنما بوحدة وادي النيل، يجلس على يساره عبد الفضيل ألماظ.. فيه صلابة واعتداد الدينكا والإرث العسكري.. وقوة المصارع الذي يبقى فرس الرهان.. عسكري لحد العسف في تلميع ما يزين كتفه من رتبة، بينه وبين الموت شهادة، وهو يحتضن مدفعه عقد موثق بالدم النجيع.. وكوكبة من أبناء الشمال: (صالح عبد القادر، وسليمان كشة، وعبيد حاج الأمين، ومحيي الدين جمال أبو سيف، وإبراهيم يوسف بدري، وحسن شريف، وحسن صالح).. هذه (الثلة الثائرة) التي أسست مبتدأ جمعية الاتحاد في عام 1919م، واندمجت مؤخراً في جمعية (اللواء الأبيض) في عام 1924م.
كانت أم درمان و(الموردة) ريحانة الثورة ورحمها الولود.. ودارت الأيام دورتها.. وجاء زمان قرر فيه (ياسر عرمان) أن يعيد من جديد (للموردة) دوراً وطنياً، حيث قرر أن يدشِّن حملته الانتخابية من منزل (عبد الفضيل ألماظ)، ويضم أسرة (علي عبد اللطيف) لذلك الاحتفال.. ولكن على حائط الغرفة كان علم الحركة الشعبية يصفق خافقاً، ويمد لسانه لوحدة وادي النيل!! ولجمعية اللواء الأبيض، ويهتف (ويايو) فيسقط من خريطة السودان بحر الغزال، وبحر الزراف، والسوباط، وتجف أشجار الزان والمانقو وحقول الباباي.. ويختفي من اللسان (عربي جوبا)، ثم يموت ثانية (منقو).. لأنه سمع لأول مرة «منقو قل: عاش من يفصلنا»!!
{ الصفحة الثالثة:
كانت دهشة أستاذ التاريخ الزائر إلى متحف السودان دهشة صاعقة.. سيما أنه قد كتب عدة مؤلفات عن ممالك السودان الإسلامية.. مبعث الدهشة التي استحالت إلى حيرة.. أنه لم يجد أثراً تاريخياً واحداً يجسد أو يرمز إلى تلك الحضارات، وإنما كل شبر في المتحف مزدحم بفخاريات وتماثيل وجفان تتحدث عن حضارة كرمة.. وخزف مروي وبعض من حفريات نجحت في أن تضيف بعض آثار عن مملكة نوباتيا والمقرة وعلوة!!
ظنَّ في بادئ الأمر أن هناك متحفاً آخر يضم آثار تلك الممالك.. إلا أنه اكتشف أن ظنه ذاك إثم مبين.. عندها كتم غيظه وأتمَّ الزيارة وانتهى إلى بعض رضا أن حمد الله أن جزءاً من تاريخ السودان لم يضع على الأقل بما حوى المتحف من كنوز مروي، وحضارة كرمة.. ثم سجل في (دفتر التشريفات) سطرين كانت كل كلمة فيها تقول كلمات هي أقرب إلى التعزية بفقد عزيز تجاهل أهل السودان وفرطوا في فقده..
برنامج الزيارة الذي أعد للأستاذ الزائر الحائز على درجات عليا في علم التاريخ، وتحديداً تاريخ دولة الفونج، تضمَّن زيارة لمدينة سنار.. حين وصل الأستاذ إلى مدينة سنار لم يجد قصراً أو آثاراً تحكي تاريخ تلك الحقبة وإنما الذي بقي منها مقابر دارسة ومساجد تريد أن تنقضَّ من فعل عوامل الزمن وعاديات الرياح.. لكن الرجل وقد تنسَّم عطر التاريخ واستنشقه طوال أيام دراسته وجد أمامه حضارة الفونج جاثمة وشامخة يكاد يرى تفاصيل التفاصل فيها، يرى ما كتبه وسرده في مؤلفاته تجسَّد حياً ًأمامه.. يراه بياناً وعياناً.
دخل صحن المسجد الذي هو مقر الملوك ورأى عشرات من مقاعد السلاطين.. (الككر)، وقد جلس عمارة دنقس وعلى يمينه عبد الله جمَّاع يوقعان التحالف الفدرالي الأول في تاريخ السودان والمصاهرة بين عرب القواسمة والدم الحامي الزنجي، فإذا تلك المصاهرة تنجب نسلاً نجيباً.. ويرى تناسل السلاطين والملوك، فتخرج ذرية نتاجها الملك بادي أبو رباط، والشيخ عجيب المانجلك.. المك عدلان.. السلطان نايل بن عمارة السلطان عمارة أبو سكيكين.. السلطان دكين بن نايل.. رباط بن بادي رباط أبو دقن.. السلطان أونسة.. بادي أبو شلوخ.. إسماعيل بن السلطان.. كلٌ جلس على (الككر)، وقد غطت الرأس طاقية ذات قرون «أم مرينان».. تزهو في الرأس فخراً كأنها تاج كسرى ومسبحة من خزف يغار منها اللؤلؤ والمرجان تتكسر حباتها في ذكر مكتوم.. صحن المسجد يمور بأصوات التلاوة وتمتمات تاج الدين البهاري وعلماء حفظ حقهم «ود ضيف الله» في طبقاته العتيقة..
رأى «سنار» تأتيها قوافل التجار وهجرة العلماء الذين وفدوا إليها يطلبون قربها وأمنها وعطاياها»
رأى دولة سنار تعوض التاريخ فقد الأندلس.. وترسخ لنظام فدرالي يوحِّد أمة السودان..
«يوحِّد أمة السودان»، وقفت هذه الجملة حرجاً ثقيلاً في حلقه.. حرج تمثل غصة كادت أن تشنق حلقه.
تساءل في فضول حرام: أيبلغ هذا الحشد من الملوك والسلاطين بأن....
لم يكمل البلاغ، وانتهت الجملة..
«بأن.....».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.