انقلبت الآية، وغدت بنات السودان يتغزّلن في الرجال. فالعديد من الشاعرات رفدن ساحة الغناء بالأغنيات (الباكية) الباحثة عن الحب الضائع، والعتاب (المُر) للذي ولّى وهجر بعد أن غدر وباع (العُشرة) ليُصبح حبيباً لإحدى الصديقات. ومنذ ظهور أول أغنية سودانية حديثة بعد عصر (الطنابرة) في عام 1919م لشاعرها إبراهيم العبّادي وهي (ببكي وبنوح وبصيِّح للشوفتن بتريِّح) التي لحّنها وغنّاها مطرب السودان الأول على الإطلاق «الحاج محمد أحمد سرور»، ومنذ ظهور هذه الأغنية والمرأة هي موضوع كل الأغنيات التي تلتها منذ عشرينيات القرن وحتى نهاية الألفية الثانية. فلأكثر من 80 عاماً إنداح الغزل (الذكوري) تجاه الجميلات دون توقُّف بداية بالعبادي، أبو صلاح، سيد عبدالعزيز، الجاغريو، الأمي، المسّاح، ود الرضي، عبدالرحمن الريح، أحمد فلاح، محمود فلاح، إسماعيل خورشيد، محمد بشير عتيق، مروراً بإسماعيل حسن، سيف الدسوقي مصطفى سند، ومحي الدين فارس، أبوقطاطي، عوض مالك، عوض أحمد خليفة، عوض الكريم القرشي، عبدالمنعم عبدالحي، محجوب سراج، محمد عوض، فضيلي جماع، محمد يوسف موسى، محجوب شريف، عالم عباس، حسن الزبير، عبدالعزيز جمال الدين، جمال عبدالرحيم، حسين بازرعة، محمد حامد آدم، أبو آمنة حامد، محمد الحسن سالم حميد، القدّال، حسن أبو العُلا، محمد عبدالحي، النور عثمان أبكر، أبو شورة، الصادق إلياس، التجاني الحاج موسى، عزمي أحمد خليل، عبدالعال، تاج السر عباس السيد، سعد الدين إبراهيم، مدني النخلي، أزهري محمد علي، مختار دفع الله، عبدالعظيم أكول، جمال حسن سعيد، وكل شعراء بلادنا من هذا الجيل المولّهْ بالإلهام (الأنثوي) حتى العام 1999م ظلّ هؤلاء الشعراء والعشرات ممن لم يرد ذكرهم يوفون «جميلة الحي» حقها، وما أن بدأت معدّلات الغزل والتشبُّب في النقصان، حتى خرجت عشرات الشاعرات يحاولن موازنة «الكفة»، فكتبن في الرجال رائع القصيد وآسره وفي قلوبهن شيء من (حتّى). العديد من الشعراء الشباب قالوا إنهم مازالوا يتساءلون كيف استطاع الكبار أن يروا كل تلك الجماليات في المرأة ومهروها شعراً سارت بذكره الركبان، وأردفوا أنهم صراحة لا يرون فيها إلا أنها زميلة وصديقة ولا يرون فيها ذلكم الحياء واللين والدَّعة، حتى أنهم يكادون يُصدرون حكماً واحداً هو أن الآباء والأجداد من الشعراء جمح بهم خيال الشعر فكتبوا عشقاً خرافياً لكائن لم يكن قط موجوداً بأرض السودان. ونقول (أسألوا الحبوبات عن السودانيات في الثلاثينيات وحتى السبعينيات قبل أن تلغوا مكتبة السودانية الشعرية). ومازال وردي يُردِّد: (سوات العاصفة في ساق الشتيل النَّيْ.. أقدلي وسكِّتي الخشَّامه وأنزِلي في العوازل كَيْْ).