يبدو أن نظام الزعيم الليبي؛ معمر القذافي، على وشك السقوط، جراء الضغوطات العسكرية والسياسية الممارسة ضده، والحرب التي يخوضها ضد شعبه ويخسرها في كل يوم، على الرغم من إصراره على البقاء؛ إما بوساطة مليشيات عسكرية تقاتل معه مقابل المال، أو عن طريق الوساطات التي يقوم بها الاتحاد الأفريقي، إضافة إلى الجهود التركية الهادفة إلى إيجاد مخرج سياسي للأزمة. ومع ذلك يبقى السؤال قائماً: ماذا بعد سقوط القذافي؟! وما تأثير ذلك على جيرانه، وبشكل خاص السودان وتشاد؟ ويبدو أن أكثر المستفيدين من سقوط نظام العقيد هي الحكومة السودانية، لعدة أسباب أهمها: أولاً: انهيار نظام القذافي يضعف الحركات المسلحة المناوئة للحكومة في دارفور، وتفقد الحركات - وخاصة حركة «العدل والمساواة» وحركة تحرير السودان وبعض الحركات التي صنعها القذافي بنفسه - منصة انطلاق سياسي، ودعماً مالياً ولوجستياً ظل يوفره القذافي بشكل دائم، على الرغم من تغاضي الخرطوم عن ذلك بحجة أنها لا تريد فتح جبهة معادية جديدة، في الوقت الذي كانت علاقات الخرطوم وإنجمينا في أسوأ الحالات، وكذلك الحال مع أفريقيا الوسطى، فضلاً عن التوترات الداخلية التي تسبب فيها انفصال الجنوب. ويشار هنا إلى أن الدور الليبي في دارفور شائك، ويعود في جذوره إلى مطلع الثمانينيات، حيث يرى بعض المحللين أن جزءاً كبيراً مما حدث في دارفور كان لليبيا دور كبير فيه، وأن دارفور - إضافة إلى السياسات الحكومية الداخلية الخاطئة - كانت ضحية للتقلبات في السياسة الليبية، وتوجهاتها المتباينة، من التوجه العروبي والأفريقي، عندما تمدد النفوذ الليبي إلى دارفور، وتم تجنيد بعض القبائل العربية في الثمانينيات، الأمر الذي أثار العديد من ردود الأفعال وقتها، وعند خروج ليبيا من دارفور؛ توفرت أسلحة كثيرة بالإقليم أسهمت بعد ذلك في جزء من الأزمة الحالية. ثانياً: بسقوط القذافي تفشل محاولاته المستمرة لسحب البساط من الجهود القطرية لحل أزمة دارفور، فقد ظل العقيد يقوم بمحاولات عدة لتكون طرابلس أو سرت هي المقر الرئيسي للمحادثات، وأن تتم بإشرافه شخصياً، حتى يكون الدور الليبي هو الفاعل في أية تسوية محتلمة للأزمة في دارفور. ثالثاً: يكتسب سقوط نظام القذافي أهمية بالغة بالنسبة للدور الذي يمكن أن يلعبه السودان على مستوى القارة الأفريقية، وهو الأكثر تأهيلاً من ليبيا، لاعتبارات تاريخية، فيما ظلت ليبيا تحتكر الزعامة الأفريقية ردحاً من الزمن، كما تسبب الموقف الليبي خلال قمة الاتحاد الأفريقي التي عقدت في أديس أبابا عام 2007م في أن يتلقى السودان هزيمة موجعة للمرة الثانية في تاريخه، مع سباق رئاسة الاتحاد الأفريقي؛ إذ لعبت ليبيا موقفاً غير داعم للسودان، بل إن العقيد القذافي حرض دول الشمال الأفريقي خلال القمة على الوقوف ضد ترشيح السودان لرئاسة القمة الأفريقية في الخرطوم، وذلك بعد معركة سياسية خسرتها الدبلوماسية السودانية بجدارة، في مقابل الدور الذي لعبته عدد من الدول الأفريقية بمساندة وضغوطات غربية وأمريكية على وجه الخصوص، بيد أن الحبكة الليبية الأمريكية عادت وأقصت السودان مرة أخرى في أديس أبابا، رغم أن القضية كلها كانت مكشوفة للمتابعين بدقة لسباق رئاسة المنظمة الأفريقية، مع أن الدبلوماسية السودانية – وقتها - كانت الجهة الوحيدة التي تدفع بالسودان للوقوع في الفخ الليبي. رابعاً: يساعد وصول نظام جديد إلى السلطة في طرابلس، الحكومة السودانية – إن كانت راغبة - في صياغة سياسة جديدة للتعامل مع ليبيا، خاصة أن السودان ظل يتعامل مع نظام متقلب، في ظل تماهي العقيد – قبل ورطته الأخيرة - مع السياسات الأمريكيةالغربية بالكامل، وظهر ذلك في الاستجابة المثيرة للجدل من العقيد القذافي لرفض استقبال الرئيس عمر البشير في القمة الأفريقية الأوروبية التي عقدت في طرابلس في نوفمبر العام الماضي. خامساً: يدعم سقوط القذافي العلاقات السودانية التشادية، ويظهر ذلك بوضوح في التطورات الإيجابية الأخيرة على صعيد علاقات الخرطوم وإنجمينا، التي انتقلت من خانة العداء المعلن إلى مصالحة سياسية شاملة، كان العقيد القذافي بعيداً عنها رغم أنه قام بمحاولات فاشلة في أكثر من مناسبة لإجراء مصالحة بين الرئيس البشير والرئيس إدريس دبي، وقد أسهم إصرار العقيد على رسم خريطة طريق خاصة به لشكل العلاقات السودانية التشادية؛ في إفساد هذه المصالحات، ولا ينسى دور الخرطوم أيضاً في هذا الفشل، بعد الاتهامات التي وجهت إليها بالعمل عسكرياً على إسقاط النظام في إنجمينا. أخيراً: للطرافة، فإن العقوبات الدولية التي فرضت على العقيد معمر القذافي، خصوصا المتعلقة بتجميد الأصول وأرصدته المالية، تتيح للحكومة السودانية الحجز على ممتلكات العقيد في السودان، وفي مقدمتها «برج الفاتح» الذي شيِّد على أبرز ملامح العاصمة القديمة، وهي «حديقة الحيوان» التي حصل عليها القذافي دون مناطق الخرطوم الأخرى مقابل ديون أقرضها لحكومة الإنقاذ في بداية حكمها. في الجانب الآخر، فإن المثير للدهشة أن سقوط نظام العقيد يلقي بآثار سلبية على النظام التشادي، رغم حالة العداء التاريخي الذي تسود العلاقة التشادية الليبية في عهد الزعيم الليبي معمر القذافي، وإبان حكم الرئيس الراحل حسين هبري، لكن تقلبات السياسة الليبية دفعت إلى أن تكون حكومة الرئيس دبي أكثر الخاسرين من ذهاب نظام القذافي، لعدة أسباب. أولاً: يقوم الرئيس إدريس دبي - غير راض - بمصالحة الحكومة السودانية وتقديم تنازلات كبيرة وصلت حتى الآن إلى مرحلة أن ترفض تشاد استقبال رئيس حركة العدل والمساواة؛ الدكتور خليل إبراهيم، رغم أن العلاقات ظلت بين الطرفين معروف حجم قوتها ومتانتها، سواء أكانت على المستوى السياسي أم القبلي، حيث ينحدر دبي وخليل من قبيلة واحدة، ودبي من البديات إحدى بطون قبيلة الزغاوة، التي تربطها علاقة رحم مع قبيلة الطوارق في جنوب ليبيا. ثانياً: باتت تشاد سهلة المنال للنفوذ الفرنسي الأوروبي، الذي تضاءل في السنوات الأخيرة بفضل مساندة النظام الليبي للعديد من الخطوات التي اتخذتها الحكومة التشادية، من أجل تحجيم النفوذ الفرنسي في تشاد، وأبرز ملامح هذه العملية الدعم الليبي لرفض تشاد السماح لقوات أوروبية (يوفور) بالانتشار على حدودها مع السودان. ثالثاً: يرى بعض المراقبين أنه لولا الدعم الليبي في السنوات الأخيرة لتشاد لما صمد نظام إدريس دبي حتى الآن - رغم الحديث عن الدعم الفرنسي - حيث كانت الحكومة هنا ترى دعم المعارضة التشادية، بينما كانت ليبيا ترى أن مصلحتها مرتبطة ببقاء النظام التشادي. ربعاً: في السنوات الأخيرة قامت ليبيا بجهود للمصالحة بين قائد جبهة المعارضة التشادية؛ محمد نور عبد الكريم، وحكومة إنجمينا - دون أي تنسيق مع الأجهزة الأمنية السودانية - وارتبط كل ذلك بتغيير حدث في خريطة المعارضة التشادية، حيث تسلم القيادة اللواء محمد نوري، وهو سفير سابق لتشاد بالسعودية، وهو من قبيلة القرعان، وكان نوري أيضاً وزير دفاع في حكومة الرئيس السابق حسين هبري، حينما اصطدم بقوات ليبية في معركة مشهورة في بداية الثمانينيات (معركة أوزو)، ووقتها كان نظام هبري مدعوماً من قبل نظام الرئيس الراحل جعفر نميري. وبالتالي رمت ليبيا بكل ثقلها في تأييد نظام إدريس دبي، ولا تريد إن تعيد ذكرى الثمانينيات المريرة. خامساً: يتحمل نظام الرئيس إدريس دبي تبعات ما يرد من معلومات في وكالات الأنباء، عن إرسال دبي لمليشيات مسلحة للقتال إلى جانب العقيد القذافي في مواجهة الثورة الشعبية، فضلاً عن الغضب الشعبي في تشاد إزاء هذه الخطوة، ولن تقتصر هذه التبعات فقط على شكل العلاقات الليبية التشادية مستقبلاً، وإنما تلقي أيضاً بظلال سلبية على علاقة النظام بالمجتمع الدولي، وخصوصاً فرنسا التي تؤيد بشدة إسقاط النظام الليبي، وكل ذلك سيظهر بوضوح في معركة الانتخابات الرئاسية التي سيخوضها دبي بعد أيام، وفي ما يبدو أن دبي نفسه يعلم صعوبة ومخاطر المرحلة المقبلة على مستقبله السياسي، لذلك فهو يلجأ الآن إلى مؤيدين تشاديين من الخارج في حي «الإنقاذ» جنوب الخرطوم!!