كتب البعض عن ثورتي تونس ومصر الشعبيتين اللتين أطاحتا بنظامي الرئيسين زين العابدين بن علي ومحمد حسني مبارك، منبهين إلى السبق السوداني متمثلاً في ما جرى في أكتوبر 64 وأبريل 1985م. ففي أكتوبر 64 وبتظاهرات سلمية انحاز لها الجيش في ما بعد أطاح الشعب السوداني بنظام الفريق عبود الذي كان يحكم البلد منذ نوفمبر 58، وفي أبريل 1985م وبتظاهرات سلمية انحاز لها أيضاً الجيش وآخرون تمت الإطاحة بالنظام المايوي الذي تجسد في أعوامه الأخيرة في رجل واحد هو الرئيس جعفر محمد نميري. لقد كان الرئيسان عبود ونميري رئيسين مؤسسين وهو ما افتقر إليه الرئيسان بن علي ومبارك، فقد كان الأول امتداداً لنظام أسسه بطل الاستقلال التونسي الرئيس الحبيب بورقيبة منتصف خمسينيات القرن الماضي، وكان الثاني امتداداً لنظام أسسه قائد الثورة المصرية المقدم جمال عبدالناصر في يوليو 1952م وكان هو أيضاً بطل الاستقلال، ففي عهده حمل الاحتلال البريطاني عصاه على كاهله ورحل عن أرض الكنانة. ومن غرائب ثورة أكتوبر 64 أن الذي ثار السودانيون ضده بقي بعد انتصار الثورة رأساً للدولة وأدى الوزراء الجدد الثوار اليمين الدستورية أمامه ثم انسحب نهائياً من الحكم ليعيش محترماً آمناً مطمئناً في بيته بالخرطوم ولما مات أول الثمانينيات وُدّع إلى مثواه الأخير بما يليق. لقد كان عبود حاكماً نزيهاً لم تمتد يده إلى جنيه واحد من مال الشعب.. ولقد هرب الرئيس بن علي وأُجبر مبارك على التنحي ثم اُعتقل هو وزوجته ونجلاه واُتهموا بنهب المال العام وهذا ما أضعف موقفهم وجعل التعاطف الشعبي معهم شبه مستحيل. فالشعوب كما قالوا تغفر وتتسامح مع كثير من أخطاء الحكام لكنها لا تتسامح أبداً مع خطأ أو فضيحة (هبش) المال العام. لقد كان عبود رئيساً نزيهاً كما قلنا، ونميري أيضاً، وهو مثله لم يتعرض (لبهدلة) ما بعد الحكم، ففي 6 أبريل 1985م في مطار القاهرة عرف أن حكومته أصبحت في خبر كان بعد الانقلاب العسكري الذي قاده المشير سوار الذهب، وبينما كان غيره من الرؤساء يهربون في ساعة الجد، فإن جعفر نميري حتى بعد أن علم بسقوط نظامه قرر أن يعود إلى بلده لكنهم منعوه فقبل بالمصير رئيساً سابقاً يعيش في مصر. وكانت مصر رائعة فقد أحاطته ببعض أبهة الرئاسة؟ ثم عاد إلى وطنه عام 1999م ليعيش عقده الأخير وسط العشيرة والأهل والشعب ولم يقصّر الرئيس البشير وحكومته نحوه قط حتى النهاية في مايو 2009م حين خرج الشعب العظيم لوداعه إلى مثواه الأخير بمقابر أحمد شرفي. وإذن، ليس صحيحاً كما جاء في إحدى الصحف أن كل الرؤساء السابقين في إفريقيا والعالم العربي تعرضوا بعد خروجهم من الحكم إلى (البهدلة والبشتنة وكشف الحال)، فهناك من لم يتعرضوا لذلك، ومنهم الرئيسان الفريق إبراهيم عبود والمشير جعفر محمد نميري، وما أكثر الأسباب ويأتي في المقدمة منها أنهما كانا رئيسين نزيهين.