لم أكن أدري أن الكتابة ستكون يوماً عصية لهذا الحد، أكثر من أسبوعين وأنا أتحسس قلمي أو الكيبورد لأكتب فأعجز تماماً وتسقط مني دمعة ساخنة ما كنت أحسب موعدها سيكون سريعاً هكذا برغم سرعة رحيلك أيها الغالي الذي علمني أبجديات الكتابة ومهد لي الطريق نحو دنيا الصحافة التي عشقتها من خلال عشقك لها وحببني فيها إخلاصك ووفاؤك النادر للمهنة والقلم. كان والدي يطلب مني دائماً أن ابتعد عن مهمة الصحافة منذ أيام اغترابه في السعودية وكان يصفها لي بأنها مهنة النكد والفقر والمرض لأنه أحس بقربي الشديد من القلم ونشوء علاقة خاصة بيني والصحف، فخاف علي من مصير كان يعمله جيداً ولكن حبي للمهنة من خلاله كان أقوى وأعمق. وأنا قليل التجربة والخبرة والحيلة في دروب الحياة الشائكة رحل عني بهدوء معهود فيه وكأنه يتركني لتجربة كبيرة ومسؤولية عظيمة ربما أدرك أنني قادر عليها وربما أراد أن تصقلني الحياة عملياً لأواصل رحلة الكفاح والمثابرة وتوفير العيش الكريم لأخواني ووالدتي الصابرة المحتسبة. كان يعاني في صمت ويرفض الخضوع للمرض في قوة وصلابة عهدتهما فيه منذ سنوات طويلة ولم يكن يردد غير اسم الله وأسمائه الحسنى عندما يشتد عليه الألم أو تداهمه نوبات القلب الذي عاش حياته بالخير والحب لكل الناس حتى توقف في لحظة حبسنا فيها الأنفاس من هول الصدمة والفجيعة فرحل من دون وداع أو سابق إنذار ولم يترك وصية وهو الذي رحل ولم يترك شيئاً غير سيرة عطرة وحب الناس ومسيرة صحفية راسخة امتدت لأكثر من ثلاثين عاماً. لم تستهوه زخارف الحياة الدنيا وزينتها ولم يكترث لجمع المال ولم يتطلع لمنصب أو جاه وكان قنوعاً بدرجة مثيرة ووهب سنواته الأخيرة لتدريب الأجيال الجديدة من الصحفيين كتتويج لمشواره الإعلامي الطويل واكتفى فقط بزرع الابتسامة وتلمس قضايا الناس والإحساس بمعاناتهم حتى حصد حبهم ودموعهم وكلماتهم الصادقة التي نعته وفي ذلك رسالة عظيمة وزهد غريب وتواضع عجيب كاد يندثر من الدنيا ومن وسط عرف بالتملق والتطاول والمصالح والكذب وسيادة مبدأ الغاية التي تبرر الوسيلة ولكن غايته كانت حسن الخاتمة فمات وآخر كلماته سورة يس وأسماء الله الحسنى ونطق بالشهادة في منظر لن ينمحي من ذاكرة الأطباء الذين كانوا يحاولون إنعاش القلب العليل. تكالب عليه المرض وعانى جسده الضخم حتى رضخ لنوائب الدهر وصار نحيفاً وكتم كل معاناته وإحساسه الفظيع بالألم وأشياء أخرى لم يكن يتوقعها من أقرب الناس إليه فقد كان صبوراً وكتوماً ومحتسباً وودع كل زائريه بالعفو وطلب منهم الدعاء وكان يدرك أن أجله قد دنا وكنا الوحيدين الذين لم نحس بذلك وكنا وقتها نسابق الزمن من أجل إكمال إجراءات سفره إلى تركيا للعلاج ولكنه كان بإحساس الأبوة الصادق لا يود إحباطنا حتى رحل قبل ساعات فقط من موعد السفر محلقاً إلى السماء في رحاب مليك مقتدر. رحل عاشق أم درمان وكأنه أراد لروحه الطاهرة أن تخرج من صلب المدينة العريقة التي أحبها وتفانى في خدمتها والدفاع عنها وحمل لواء أهلها وقضاياها طوال عمره ورفض أن يموت بعيداً عن أم در الحبيبة وسط أهله وعشيرته وجيرانه وزملائه وأحبابه وعارفي فضله وكأنها أمنية عزيزة حققها له العلي القدير حتى يمر جثمانه بطرقاتها القديمة مودعاً إلى مقابر البكري التي تضم رموز أم درمان ورجالاتها وأسرها ليرقد هناك بجوار أسرته التي أحبها بقلب نقي وجاور شقيقته حياة التي كان يحبها ويميزها بالحب والود وانفطر قلبه لفراقها سبحان الله فقد سأل شقيقه عمر عن قبرها قبل أيام من رحيله. رحل أحمد عمرابي في صمت وبهدوء كما كان طوال أيام عمره وخلف فينا جرحاً وحسرة وحزناً وفجيعة وألماً لن يزول مع الأيام ولن ينتهي مع السنين بل سنكون في شوق قاتل لملاقاته في الجنان بإذن الله لنرتوي من حنانه وأبوته وعطفه وشفقته علينا لأنه رحل عنا فجأة ولم يستكمل القصة ولم نشبع منه وترك الكثير من الدروس والعبر. رحل عمرابي ولم يدعني أكمل واجبي وأرد جزءاً يسيراً من أفضاله علي بإكمال علاجه ولم أكن أعلم بأنه كان يشفق على الصرف ودفع المال بإحساس الأب بأنني ما زالت في بدايات طريق وأن أسرتي الصغيرة تحتاجني وأن إخوتي في انتظاري وهم الأولى في نظره وما كان يدري أن كنوز الدنيا لا تساوي وجوده بيننا وأن بقاء حفيدته وجن في حضنه الحنون يساوي الدنيا وما فيها. أكثر من أسبوعين وأنا أسترجع الحكاية التي مرت كالطيف سريعاً، أكثر من أسبوعين وأنا أستجدي الصبر بلا فائدة وكل حروفي لن تعوض شيئاً ولن تعبر عن أب وصديق وأخ وأستاذ.. كل حروفي تتقازم أمام الحروف الصادقة المعبرة التي كتبها رفقاء دربه الذين أجزم بأنهم عرفوه أكثر مني فقد وهب حياته للصحافة والحرف والقلم. رحمك الله يا والدي وأسكنك الجنة.. اللهم ارحم عبدك أحمد عمرابي واغفر له واغسله بالماء والثلج والبرد وطهره من الخطايا كما يطهر الثوب الأبيض من الدنس ووسع مرقده وانس وحشته وأبدله دارا خيراً من داره وأهلاً خيراً من أهله واجعل قبره روضة من رياض الجنة.. اللهم آمين يارب العالمين ولا حول ولا قوة إلا بالله.