نبيل القمص تألقت ودمدني بعد مشروع الجزيرة والذي كان مشروعاً عملاقاً، كان ينتج القطن ويغطي احتياجات السودان من العملة الحرة، ولقد زرت مدني عدة مرات، أولاها عام 1965م خادماً لكلمة الرب، وألقيت هناك العديد من العظات، وحفظ معي الكبار والصغار “يا كنيستنا فيكي كل شيء جميل”، وبعد زواجي ذهبت إلى مدني ضيفاً على أخوال زوجتي، حيث كان جرجس مينا سكرتيراً لمحافظ مشروع الجزيرة، وكان عياد مدني سكرتيراً للمحافظ في بركات، وأذكر كيف كان رخاء مدني بل رخاء السودان كله، مر أمامنا راعٍ معه قطيع من الخراف، وطلبت من صليب متري وهو أكبر رجال مدني سناً الآن كما قال لي أن يشتري لي خروفين، وصليب معروف بالطرافة، والنكتة، وقف بين الخراف واختار، وجاء وقت دفع الثمن فكان كل خروف ثمنه خمسة جنيهات فقط لا غير، فتأملوا، بعدها جاء إلى جلستنا قبطي طيب وبسيط يسمى بشاي ميخائيل سمعان، كان بائعاً متجولاً يمر على التجار، ويبيع لهم الترمس الغذاء الكامل للرهبان، وله أحد عشر من الأبناء، تسع أناث، واثنان ذكور منهم نادر بشاي المحامي. ومدني في قلبي تنمو حباً، أزورها الآن مرة كل عام، وفي شهر رمضان المعظم، وأحضر إفطار رمضان الذي يعده نبيل القمص لحسابه الخاص، والذي يحضره في كل مرة والي مدني، وكل أركان حكومته الأشاوس، ورجال الصوفية، ورجال الدين، وكاهن كنيسة مدني أبونا دوماديوس الشاب الذي وضع فيه أهل مدني آمالاً كباراً، ويحضر هناك كل أقباط السودان، وفي كل مرة ألقي كلمة سعيداً جداً بهذا التعايش مغتبطاً بهذا التوادد، راسماً معهم المزيد من مساحات الود والاحترام بين المسيحية والإسلام، ويعد نبيل القمص رقماً هاماً وكبيراً في ودمدني، فهو من المتيمين حباً بالمؤتمر الوطني، وهو محامي المؤتمر، ومحاسب المؤتمر بحسب دراساته للقانون والحسابات، وهو عضو بالمجلس القيادي، والمجلس المحلي، ومجلس الشورى، ورئيس اللجنة الشعبية، وعضو مجلس أمناء الجزيرة، ويحمل توكيلاً رسمياً من الرئيس عمر البشير باعتباره نائباً لرئيس لجنة انتخاب البشير لرئاسة الجمهورية، ويلقبونه بأنه قسيس الجبهة الإسلامية القومية، وهو طبعاً ليس قسيساً، ولكنه حمامة سلام بين الدولة وكل كنائس مدني من أقباط وكاثوليك، وأنجيليين، وأسقفيين. وعندما زارني نبيل وزوجته، ودكتور جون ابنه وزوجته، مواسياً ومتفقداً لي بعد عملية في القلب، طلب مني أن أكتب عن رجال مدني، وطالبني أن لا أختصر الأمر في الأقباط داؤد يسي ودرياس مينا، فرح الأطرش صاحب أول كاميرا في مدني، وحليم سلوانس، موريس سدرة، دكتور وديع يني مقار الخبير الزراعي، دكتور موريد جرجس خبير مشروع الجزيرة، دكتور جورج إبراهيم غبريال وصبحي حبيب، دكتور وجيه صموئيل، وبقطر محروس مفتش الأراضي، ورشدي غالي، ولويس زكي أسكندر، جرجس جورجي، إيليا ونيس محلات الشمس، وصبحي ونيس، نصحي حنا، يني متري، فايز تادرس، هارفي العبد، غتامي يعقوب، قيصر متى، جرجس سارونيم، لمعي حليم، لمعي مكسيموس ورأفت أسعد نان، وهما يمدان مدني باللحوم البيضاء، ونبيل وصفي ميخائيل، بهيج ونيس رئيس الجمعية القبطية بمدني، ونبيل صبحي حبيب نائب الرئيس، وأشرف عزمي موسى السكرتير ورأفت نان أمين الصندوق مبارك نعيم، عماد رزق، رامز سامي فاخوري ناجي عبيد، وسامي غبرص. وذكر لي نبيل القمص قامات سودانية عملاقة من مدني مثل بولس بطرس وكيل البريد، وعبدالملاك ميخائيل المهندس الذي هو من الرعيل الأول لتركيب الآلات الثقيلة بعد خروج الإنجليز، والتاجر غبريال شنودة الذي كان ثرياً معطاءً، والذي يذبح كل يوم جمعة ثوراً ضخماً ويجهز معه ما لذ وطاب، ويذهب به إلى السجن ليقدمه للمساجين، وذكر لي كيف كان الأقباط في أمانتهم، وتجارتهم، ويذكر إدارة البنوك حيث كان الأقباط مثل سامي حنا، وهيب برسوم، سامي يسي مديرين للبنوك هناك. ويقول نبيل إن مشاهير مدني يتألق فيهم من رجال القانون عبدالعزيز شدو، فايز غالي، سامي فاخوري، صلاح أبو زيد، عبيد حاج علي، محمد أبو زيد، ومن الفنانين، محمد الأمين، الكاشف، عبدالعزيز المبارك، أبو عركي البخيت، ومن رجال السياسة أحمد خير المحامي مؤسس نادي الخريجين ومؤلف كفاح جيل، والعمدة صديق شقيري زعيم حزب الأمة، والدكتور عبدالرحيم أبو عيسى زعيم الاتحادي، والشيخ محمد عبدالله خليفة شيخ مدني الذي يطلق اسمه على المدينة، والشيخ شاطوط، والشيخ الجيلي أبو صلاح، والذي ذهب إلى روما، والتقى بالبابا يوحنا بولس وأدار معه حديثاً عن وطنية الأقباط بالسودان، وعن انصهارهم التام في المجتمع السوداني، وأخذتنا معاً الذكريات للآباء الكهنة فلقد كان القمص بشارة ميخائيل وهو من أقباط مدني قمصاً لكنيسة مدني أوائل الثلاثينات، وكان القمص جرجس جودة عملاقاً، صابراً، مثابراً، وكان يشرف على كل البلاد التي ليس فيها كنائس مثل القضارف، كوستي، سنجة، سنار، وهكذا رغم اتساع تخومه كان عطاؤه سخياً. وحكى لي الدكتور موريد جندي بطرس وهو من أبناء مدني عن معلم الكنيسة الأعمى، الذي كان يلمس الشيء، ويقدم رأيه فيه، وعندما استورد جرس الكنيسة كان قراره أنه جرس ممتاز. ونذكر من الفنانين مكرم نسيم، إيليا ديمتري، الذي قام بتغطية جوائز المهرجان، وبحسب إفادة وداعة محمد أحمد في خطابه إلينا ذكر أن عازف المندلين مع فنان عطبرة الأول حسن خليفة العطبراوي كان القبطي السوداني مكرم مرقس. امرأة أميرة: شهد مطار الخرطوم في السبعينات، منظراً جميلاً، فيه توقف موكب الرئيس نميري بعد وداعه لنظيره حافظ الأسد، ونزل الرئيس من مركبته ووقف أمام رجل رياضي كان يمشي ويجري رياضة في كل شوارع الخرطوم، وصافح نميري الرجل وقال له كيف أنت يا فايز برنسة؟، وهرع أمن المطار ليتحقق مما حدث وتوقف الناس، وشاهدوا فايز بخيت نائب محافظ بنك السودان، وهو يبتسم ابتسامته الجميلة، ويأخذ زميله في مدرسة حنتوب في أحضانه، ولكن ما هي قصة برنسة، وبرنسة اسم يعني الأميرة، وفي لقاء مع أسرة فايز بخيت زوجته وابنته وأولاده دار الحديث حول برنسة، إنها امرأة من الجزيرة، وهي أم لأربعة أولاد وبنت، وقد ترملت في عمر ستة وعشرين عاماً، ورفضت أن تكون عالة على أحد، وبدأت رحلتها في الجهاد منذ عام 1930م فهي من مواليد 1904م، وحازت إعجاب الجميع في جهادها، كتب عنها الأديب والإذاعي محمود أبو العزائم في سحارة الكاشف، وبعد وفاة زوجها الموظف بالسكة حديد جاء إليها العديد من الرجال الكرماء يخطبون ودها، ولكنها مثل أي امرأة قبطية ترفض الزواج بعد رحيل زوجها، وتتفرغ لتربية الأبناء حتى لا يذلوا ولا يهانوا، فافتتحت متجراً صغيراً في الشارع أو كما نسميه (كنتين)، وكانت تبيع ضروريات الحاجيات، ثم أضافت إليه الأقمشة، ثم بدأت بالأقساط، ونجحت في أن تدير حواراً من موقعها مع نساء الحي مسلمات وقبطيات، والمرأة تحب الونسة، وازدهرت تجارتها وراجت، وتوسع العمل كما كتب لي المهندس نبيل فايز بخيت، وبدأت رياح الصراعات مع أمثالها من التجار، ووشوا بها إلى المفتش الإنجليزي أنها تعمل بدون ترخيص، وأطفأ المفتش نيران الشر وزارها وأعجب بقصة جهادها وعرف ظروفها، فقرر أن تمنح رخصة مجانية مدى الحياة. وعاشت المرأة الأميرة حياة اجتماعية مميزة، كان لها رأي في المباني وفي الديكور، وكانت تقوم بخياطة ملابس أبنائها، بل كانت تحلق لهم شعور رؤوسهم، وعندما جاءت ساعة الرحيل، انطلقت إلى ربها هادئة مرضية، بعد رحلة جهادها، فلقد كانت أول امرأة هكذا تتاجر، وكانت موضع ثقة في الكنيسة وأمينة الصندوق فيها، وهذا لم يحدث سوى مع برنسة، ويوم رحيلها كان حشد جماهيري كبير تدفقت فيه كل مدني يودعونها، وكانت محطة المواصلات عند بيتها تسمى محطة برنسة، مثل محطة مقار، وقبل أن ترحل للعالم الآخر بيومين سلمت عهدة أمانة الصندوق إلى الكنيسة، ودفعت ما عليها من ديون، وذهبت إلى البارئ نظيفة طاهرة، إنها السيدة برنسة حنا.