لما وقفت على كاريزما ومقدرات الوالي كرم الله عباس الشيخ والي ولاية القضارف المنتخب، ثم استدعيت ذاكرة ذلك الصراع الشاهق الذي دار بينه وبين الوالي وقتها الدكتور عبدالرحمن الخضر، ساعتها أدركت عبقرية ذلك المثل السوداني الذي يقول «لا يعيش تمساحان في بحر واحد»، فأصبح لكل واحد منهما بحره الخاص وولايته، وفي المقابل (البلد الما فيها تمساح يقدل فيها الورل)، فبعض الولايات قد تحتاج إلى والٍ بدرجات «كرم الله وعبدالرحمن»، أو قل بدرجة تمساح، ويجب التنويه إلى أن التمساح هنا يرمز إلى القوة والفعالية وليس شيئاً آخر، والله أعلم. قد تجولنا على بعض الحقول على متن عربة كاشفة بصحبة السيد النائب الأول، والعربة تتهادى بين الحقول قال السيد الوالي امسكوا في بعض، وكنت ساعتها بالقرب من الأخ ضياء الدين بلال الذي حاول أن يمسك في السيد محافظ البنك المركزي، فقلت له «البنك المركزي في هذه الأيام لا يستطيع أن يركزك»، فكان إلى جانبنا الأخ المقدم من حراسة السيد النائب، فقلت عليك أن تمسك في العساكر فهم صمام الأمان! الطرفة التي طرب لها الحضور، وحقيقة لو ركز البنك المركزي لركزت كل البلاد، ففي ثبات واستقرار أسعار عملاته استقرار لاقتصادنا القومي. البروفيسور قنيف سألني عن حالة الولاية، والولاية المقصودة هنا هي ولاية نهر النيل، فنحن أبناء ولاية واحدة بل محلية واحدة هي محلية بربر، فقلت له «حالها يسر الأعداء»، طأطأ رجل الزراعة الكبير رأسه دون أن يقول شيئاً كما لو أنه يشاطرني بدفقة من حزن مهيب، فولايتنا تتقدم بصورة مذهلة للخلف، برغم الجهود التي تقوم بها حكومة السيد الفريق الهادي. وقفنا على قارعة حقل هائل نستمع لأحد مزارعيه، فقال الرجل «نود من الحكومة أن تقف معنا»، فقال شيخ علي «أهو نحن واقفين معاك»، وهذه العبارة كما لو أنها بقية مما تركت زيارة السيد النائب لمصر، حيث تأتي رحلة القضارف مباشرة بعد رحلة الشقيقة مصر. التقيت في إحدى محطات الزيارة بالأخ الدكتور المقدم فتح الرحمن الجعلي، الإعلامي المطبوع وأحد معتمدي ولاية القضارف، فقلت له (إنت محلك وين؟)! فقال، وكنا وقتها بمحلية باسندة، قال: محليتي تجاور هذه المحلية القلابات الشرقية، وكان يجلس في مقاعد الضيوف، وبذكر الإعلام التقينا أيضاً صديقنا الإعلامي عبدالإله أبوسن الذي يشغل منصب وزير الإعلام والثقافة في حكومة السيد كرم الله، فحكومة بهذه الكوادر المصقولة تستطيع أن تعبر عن نفسها ببيان ساحر جميل ورشيق، فلا غرو فقد كانت درجة الخطابة عالية جداً عند كل الذين اعتلوا منصات الحديث. لقد كان السيد المتعافي أكثر عافية وهو يقف بنا على حقل «زهرة الشمس»، كان حقلاً هائل الإنبات لدرجة الغناء (الزهور صاحية وإنت نايم)، وكانت ابتسامته المعهودة أعرض وأنضر من زهرته، وكانت شهادة عملية لصالح الزهور والشمس والسيد المتعافي الذي بدا في هذه الرحلة بروح معنوية عالية ولياقة ذهنية ترقى به إلى درجة «رجل الرحلة»، كان وفدنا الإعلامي يتشكل من الأخ الأستاذ ضياء الدين بلال والناشطة في إعلام النهضة الأستاذة كوثر بيومي، التي قرأت علينا على هامش الحقل وقارعة الرحلة أشعاراً تراثية جميلة، فضلاً عن الإذاعي المتألق مزمل ووفد التلفزيون القومي، بينما تخلف الأخ الأستاذ عثمان ميرغني عن رحلة السيد النائب الأول! والرحلة على هذه الطائرة العمودية كانت شاقة جداً ولا أعرف إن كان الأخ ضياء سيلبي دعوات النهضة المرتقبة! كانت مؤسسة الملاذات بالأحرى ترتحل على متن «حزمة مقالاتها» عن النهضة الزراعية، وعلى طريقة محمد قطب «ذهبنا إلى الشرق فوجدنا مسلمين ولم نجد إسلاماً، وجئنا إلى الغرب فوجدنا إسلاماً ولم نجد مسلمين»، فنحن رجعنا إلى الخرطوم فوجدنا نهضة ولم نجد زراعة وذهبنا إلى القضارف فوجدنا زراعة..»، ولك أن تتساءل «أطويل طريقنا أم يطول؟!»، فما زال الطريق طويلاً أمام النهضة، ويكمن في جملة مفيدة واحدة «التحول الدراماتيكي إلى الزراعة الحديثة»، لكن النهضة تعرف الطريق، ولكنها تحتاج لإمكانات هائلة، هائلة جداً. وقديماً قيل «الزراعة تحتاج لمال قارون وصبر أيوب وعمر سيدنا نوح».. والله أعلم.