حب الاستقرار: إن القبطي بطبعه محب للاستقرار، ومن أتى من مصر، ومن ولد في السودان، كلاهما جُبل على حب السودان والاستقرار فيه، وبسبب هذا الاستقرار توالدوا، وأنجب بعضهم بل أغلبهم الكثير من الأبناء، ربما بسبب إيمانهم الكبير، بأن الله ما (شق حنكاً إلا أطعمه)، وبأن الله هو الرازق وموزع الأرزاق، فلقد أنجب بعض الأقباط أعداداً كبيرة من الأبناء والبنات، فمثلاً برسوم ميخائيل جد المحاسب والمراجع بالولاية طلعت لويس أنجب 22 طفلاً، وهذا من امرأة واحدة، وكان آخرهم هو رفعت كان لها من العمر خمسة وخمسون عاماً، وبعد هذا نعرف أسرة حنا بطرس وكانت من خمسة عشر فرداً، ولدي صورة لهم جميعاً في أيقونة واحدة، وهؤلاء لم يمت منهم أحد، أما نصيف بدوي فقد أنجب خمسة عشر بقي منهم 11 طفلاً، ويني مقار أنجب أربعة عشر طفلاً، وملاحظتي عن هذا العدد تؤكد رغبة الأقباط في الاستقرار، كما تثبت ارتفاع مستوى خصوبة المرأة، كما هي شاهد على العناية والرعاية وهذا يؤكده قلة عدد الوفيات، أو انخفاض نسبة الوفيات عند الأطفال، ويقول دكتور أحمد سيد أحمد، مؤلف كتاب تاريخ مدينة الخرطوم تحت الحكم المصري، 1820-1885م، الهيئة المصرية، العامة للكتاب، القاهرة 2000م، وفي صفحة 270: «أما القبط فقد كانوا قبل كل شيء موظفين في الحكومة، وبخاصة في الإدارات المالية، وقد عرفتهم البلاد منذ الفتح، مأموري ضرائب وكتبة عند تجار الجنوب، كما كانوا بالخرطوم ومنهم عدد من التجار جاء معظمهم من مصر العليا، وبخاصة محافظتي سوهاج وقنا، وهم أكبر طوائف المصريين في المدينة من حيث حب الاستقرار، ولذلك كان عددهم أكثر ثباتاً من أية طائفة منهم، وسكنوا بجوار بعضهم في الحي القبطي حول الكنيسة القبطية، وقد افتتحوا في هذه الكنيسة في أواخر الحكم المصري مدرسة صغيرة لأبنائهم، هذا وما ذكره هذا المؤلف أحمد أحمد تنقصه الدقة، لأن المدرسة بٌنيت منذ أول أيام الحكم المصري، ولأن الحكم المصري كان يسمى الحكم التركي، لأن الاسم لطوبة والفعل لأمشير، ولأن أي مدرسة قبطية إنما كانت مفتوحة للكل مسلمين ومسيحيين، وهذا منهج الأقباط في حياتهم منذ أول الأيام، ويذكر محمد محمد أن محمد على بذكائه السياسي كان يرغب في أن يبني كنيسة قبطية للأقباط، ولكنهم رفضوا أن يميزوا على غيرهم، وقرروا أن يبنوا كنيستهم من حُرِ مالهم، وليس من الحاكم. ويقول مؤلف كتاب الخرطوم إنه لم يكن عدد القبط في الخرطوم كبيراً، فقد كان سنة 1834 مائتين فقط، وارتفع هذا العدد إلى خمسمائة بعد ذلك بعشرين سنة، فقد هاجر كثير منهم إلى مصر عند قيام الثورة المهدية، من بينهم الأنبا مكاريوس أسقف الخرطوم ومعه القمص تاوضروس. وقد قدر عدد الأقباط في السودان عند قيام الثورة المهدية بمائتين إلى ثلاثمائة أسرة كان منها تسع وستون أسرة في الخرطوم، ورغبة في حب الاستقرار كان التجار عند مغادرتهم منازلهم في الصباح يقفلون أبوابها، ويحملون معهم مفاتيحها الخشبية الضخمة، وذلك لتطمئن قلوبهم على من في المنزل حتى رجوعهم منازلهم. موائد الأقباط: وتحدث محمد محمد عن رغبة الأقباط في الحياة الطيبة والجَّيرة الصالحة مع المسلمين، وهذا تأكيد لجذور التعايش التي تمتد إلى أزمنة بعيدة، ويقول محمد محمد في صفحة (270)، ومن مميزات المجتمع القبطي في الخرطوم أن الموظفين القبط كانوا يحاولون لغاية في نفوسهم، الارتباط بالموظفين السودانيين بأقوى رباط، ولا أقدر أن أمر هنا دون تعليق بماذا يقصد الكاتب بعبارة لغاية في نفوسهم، وما هي هذه الغاية؟ نوافق على أن الغاية فقط هي ما جبل عليه الأقباط من حب للآخر واحترام للآخر، عملاً بوصايا الإنجيل. ويقول مؤلف كتاب الخرطوم إن من وسائل الأقباط في ذلك دعوة المسلمين إلى موائدهم، وبخاصة أيام الصوم الصغير والصوم الكبير، وكان هؤلاء يردون دعواتهم في شهر رمضان، وكانت موائد القبط تزدحم بأصناف الطعام المصرية، ويقرر الشيخ القباني أن شعار هذه الموائد كان «إذا طعمت فأشبع» وأن المائدة التي كانت تقام لعشرة أفراد كانت تشبع العشرين أو الثلاثين، وهذا أمر معايشة راقية، طعام الأقباط حل للمسلمين، وطعام المسلمين حل للأقباط، وتبادل الدعوات كرم يستحق التسجيل.