{ وجد نفسه في معسكر نزوح مع أسرته ولم يتجاوز الست سنوات.. ذاكرته تطرق طرقا خفيفا بمكان ثان غير هذا المعسكر.. ذاكرته لم تسعفه بفكرة كاملة تمكنه من طرح سؤال.. عقله يحبس في داخله أفكارا كثيفة، غير مكتملة، تضطرب وتتداخل بفعل تفاصيل الحياة في معسكر أبو شوك بضاحية فاشر السلطان.. حياة المعسكر صاخبة.. الناس بكافة سحنات الأرض ولغاتها.. ذاكرته المضطربة ليس فيها غير لون وسحنة ولغة أبيه وأمه.. المكان الآخر الذي يطرق ذاكرته هو قريته التي ولد ونشأ فيها لأربعة أعوام قبل أن تحمله صرخة إلى معسكر أبو شوك، تتراءى له قريته ببيوتها القليلة المتناثرة فترتجف أضلعه لهذه البيوت الكثيفة وأزقتها الضيقة وعشرات الآلاف من البشر تلمحهم عيناه كلما أرسل ناظريه في أي من الاتجاهات.. { تنجح ذاكرته في اصطياد يد أبيه وهي تجلب لهم الطعام. أما هنا فهو وأبوه وأسرته ينتظرون يدا أخرى تجلب لهم الطعام.. حياة المعسكر تصفعه بلؤم يفضي به إلى حالة من الاغتراب النفسي والمعنوي، يهرب من كل شيء في المعسكر.. يهرب من أبيه ومن أمه ومن طعام المعسكر وشرابه وكسائه وخدماته ودروسه.. يهرب دوما إلى الفضاء الخارجي برفقة صديقه الوحيد.. حمار الأسرة وقد نزح معهم قبل سنتين وتوطدت علاقته به أكثر في المعسكر، يمضي راجلا أمامه إلى خارج المعسكر.. حماره يأكل من الحشائش ويأكل هو من طعام تضعه له أمه في مخلاة يحملها معه ويشربان من مياه الأودية ويعودان قبل غروب الشمس إلى المعسكر.. { ذات يوم وحياة الطفل والحمار تمضي كما هي، يقتربان أكثر من مطار الفاشر.. داخل المطار حركة نشطة لمتمردي دارفور وقد اقتحموا المطار في هجومهم الشهير على مدينة الفاشر في الخامس والعشرين من شهر أبريل 2003م.. الطفل يلعب بجوار حماره الذي استلقى على الأرض بعد أن أكل وشرب ما فيه الكفاية.. فجأة يشق الصمت دوي انفجارات متتابعة.. يجن جنون الطفل.. يكاد ينفجر هو الآخر، يجري مندفعا نحو الحمار، يصعد على ظهره قبل أن يستقر الحمار واقفا.. الحمار هو الآخر يفزعه صوت الانفجارات المتتابعة فيندفع كالصاروخ والطفل ملتصق على ظهره يكاد ينفذ إلى جوفه، ينطلق الحمار مضاعفا سرعته كلما توالت الانفجارات.. ثلاث ساعات والحمار يجري والطفل على ظهره حتى أذنت الشمس بالغروب وانقطع صوت الانفجارات وبدأت خطوات الحمار تبطئ سيرها والطفل ينزع رأسه من ظهر الحمار حتى استقر جالسا والليل قد أحاط به من كل جانب.. واصل الحمار ماشيا الليل كله وقد أسلم الطفل أمره للحمار.. حتى منتصف نهار اليوم التالي والحمار لم يكف عن السير والطفل بلا عقل وبلا قلب وبلا روح، خطفت الانفجارات إدراكه وقطعت صلته بكل شيء، عالمه حماره، حتى عيناه لا تترقبان شيئا أمامهما، هما فقط تبصران ولا تدركان.. { قرية تبرز أمام الحمار وقد أدركها، هي قرية (أبو شمال) على مشارف الصعود إلى سلسلة جبل مرة التي تمتد إلى مئة كيلومتر، عينا الطفل تبصرانها ولا تدركانها.. هي القرية التي ولد فيها وقضى بها أربع سنوات قبل أن يزحف نازحا إثر صيحة منكرة لا يعرف أحد من وراءها.. الأفواه تصرخ: (الجنجويد جوكم) فيندفع الناس بأجسادهم فقط تاركين وراءهم كل متاعهم ناجين بأرواحهم.. عشرات الآلاف نزحوا إثر صيحة لم تحمل أحدا من الجنجويد بعدها إلى تلك القرى.. الحمار يمضي إلى داخل القرية تنتهي به الرحلة الطويلة إلى منزل أسرة الطفل، يسترد الطفل بعض إدراكه، يقفز من ظهر الحمار إلى الأرض، يستقر واقفا، يتأمل المنزل.. غرفتان وزريبة وشجرة كبيرة تتوسط المنزل.. يخطو نحو إحدى الغرفتين والباب موارب، يلج إلى داخلها، الغرفة كما هي، على حالها كما تركتها الأسرة، يخرج ليتجه إلى الغرفة الثانية.. سريران وملاءتان تستجيبان لهواء يحرك طرفيهما ودولاب وطاولة عليها أواني منزلية.. لم يدرك الطفل بعد الحقيقة كاملة ولكن ثمة طرق قوي على ذاكرته ينبئه بشيء عظيم.. تحمله قدماه إلى الدولاب، يفتحه ويشرع في البحث في محتوياته، يلتقط صورة لأبيه فينهض مذعورا.. يدرك الحقيقة كاملة يسترجع المعسكر ودوي الانفجارات ورحلة الحمار والمكان الثاني الذي هو الآن فيه.. يدرك الآن تحديدا أنه في البيت الذي ولد ونشأ فيه ولكن عقله يعجز في ذات اللحظة أن يجيبه: لماذا تركنا بيتنا ورحلنا إلى ذلك المكان الغريب وكل شيء هنا على حاله..!؟