من جديد برزت قضية أبيي إلى السطح رغم ضخ دماء جديدة من جنود القوات الإثيوبية لتهدئة الأوضاع ريثما تعود القضية إلى طاولة المفاوضات الثنائية بين الحكومتين في الشمال والجنوب لإيجاد حلول عادلة للطرفين. لكن الأنباء التي رشحت قبل يومين تحدثت عن حشود عسكرية للجيش الشعبي على تخوم المنطقة بهدف الاستيلاء عليها بوضع اليد، لكن قبيلة المسيرية اعتبرت محاولات حكومة الجنوب لحشد الجيش الشعبي لقواته على مشارف أبيي مجرد مناورة لشغل الرأي العام في جنوب السودان عن واقعه المتردي. القيادي المسيري محمد عمر الأنصاري قال ل(الأهرام اليوم) أمس (الأحد) إن حشود الجيش الشعبي جنوب بحر العرب وليس شماله، وعدّها مظاهر (إرهابية) فقطن لا سيما أن القوات الإثيوبية منتشرة في شمال وجنوب البحر، وطمأن الأنصاري بهدوء الأوضاع في المنطقة. الخلافات الشائكة بين الدولتين في الشمال والجنوب حول عدد من الملفات العالقة والحسّاسة وعلى رأسها ترسيم الحدود وإيجاد صيغة توافقية حول النفط وأبيي وغيرها من القضايا المعقدة باتت محل تنازع وتجاذب بين القيادات في الخرطوم وجوبا. ورغم الإعلانات من هنا وهناك بأن الإرادة السياسية قادرة على تجاوز هذه العقبات، إلا أن الأجواء ما زالت قاتمة والصورة حالكة السواد، رغم رحلات رئيس الوساطة الأفريقية بين الدولتين في الشمال والجنوب ثابو أمبيكي لتجاوز العقبات. (1) الأنصاري رغم تأكيداته بتحسن الأوضاع، إلا أنه عاد وحذّر في حديثه ل(الأهرام اليوم) من وصول مجموعات من دينكا نوك وتسليم أنفسهم للقوات الإثيوبية بحجة أنهم جياع، ونوّه إلى تسليمهم مذكرة احتجاجية لقيادة القوات الإثيوبية لعدم شرعية خطوتهم باستقبال مجموعات الدينكا، باعتبار أن الخطوة من اختصاص الشرطة وليس الجيش. الحشود العسكرية طبقاً لما رشح من أنباء ما زالت مستمرة على حدود المنطقة رغم الاتفاق بين الدولتين في الشمال والجنوب على سحب القوات طبقاً لما كشف عنه مسؤول رفيع بالأمم المُتحدة في التاسع من سبتمبر من العام الماضي بأن السودان ودولة جنوب السودان المستقلة حديثاً اتفقا على سحب قواتهما من منطقة أبيي المُتنازع عليها. وقال نائب رئيس إدارة حفظ السلام في الأممالمتحدة إدموند موليت للصحافيين بعد أن أحاط مجلس الأمن علما بالقضية: (لقد اُتفق على هذا الأمر صباح الخميس في أديس أبابا بمقر الاتحاد الأفريقي). وقال موليت إن الأطراف اتفقت على إعادة الانتشار أو سحب القوات التابعة لجيشي البلدين (الشمال والجنوب) من المنطقة، لافتاً إلى أن الخرطوم أكدت سحب قواتها ريثما يتم تشكيل إدارة في أبيي لكنها تنازلت عن الشرط، وقال موليت إن سحب القوات المسلحة للجانبين قد يُساعد على تسهيل مُهمة قوة حفظ سلام للأمم المتحدة تتألف كلها من إثيوبيين وتشكلت للقيام بدوريات في أبيي. (2) أنباء الحشود العسكرية للجيش الشعبي حول أبيي قلل من أهميتها القيادي المسيري ورئيس إدارية أبيي السابق رحمة عبد الرحمن النور. وقال للمركز السوداني للخدمات الصحافية أمس الأول (السبت) إن حكومة الجنوب لديها أهداف من ثلاثة محاور تتمثل في تضخيم قضية أبيي بجانب لفت أنظار العالم لتحقيق مكاسب سياسية فضلاً عن استخدامها ككرت ضغط على السودان. ونوّه رحمة إلى تمسكهم بسودانية المنطقة وفقاً لاتفاق 1905م الذي قضى بتبعيتها لشمال خط 1/1/1956م، لافتاً إلى أن وثيقة كادقلي تمثل حلولاً ناجعة تجعل المنطقة للتعايش السلمي بين دينكا نقوك والمسيرية، وجدّد رحمة دعوته جميع الأطراف إلى التمسك بصوت العقل والحكمة من أجل استقرار المنطقة. ويتركز الخلاف على من يحق له التصويت، فبينما ترى الحركة الشعبية، أن التصويت يجب أن يكون حِكراً على قبائل دينكا نقوك، يرى حزب المؤتمر الوطني أن حق التصويت يجب أن يشمل كذلك قبائل المسيرية الرعوية التي تقضي عدة أشهر من العام في أبيي. (3) المُفاجأة كانت في عرض حكومة جنوب السودان تقديم النفط لدولة شمال السودان بأسعار مُخفضة، وعرض مساعدات مالية حال تنازل الخرطوم عن مطالبتها بمنطقة أبيي الحدودية المتنازع عليها. بيد أن الحكومة ردّت بعنف على عرض باقان أموم وقالت على لسان مستشار وزير الإعلام ربيع عبد العاطي إن الحكومة لن تتنازل عن أبيي مهما كان الثمن، ووصف عبد العاطي العرض بالرخيص واعتبره محض أوهام، لافتاً في حديث سابق ل(الأهرام اليوم) إلى أن الحكومة لن تستجيب للضغوط، وأن هكذا عروض لا تتناسب مع الطالب ولا مع المطلوب. كبير مفاوضي جنوب السودان باقان أموم قال إن جنوب السودان يعرض الآن على الخرطوم بيعها النفط بسعر مُخفض ومبلغ من المال لم يكشف عنه، بجانب الإعفاء من جميع المتأخرات من حصة النفط التي يطالب بها الجنوب عن فترة ما قبل الانفصال، وعدّها حزمة مطالب مقابل أن تضمن حكومة جنوب السودان سلامة أراضي جنوب السودان والموافقة على نقل أبيي إلى الجنوب والتنازل أيضاً عن أي مطلب بشأن المطالب حول المناطق المتنازع عليها على الحدود التي يطالب بها الشمال. ورغم قناعة باقان أموم بمطالباته إلا أن القيادي المسيري حريكة عز الدين قال ل(الأهرام اليوم) إن أبيي شمالية وستظل شمالية وليست قابلة للمساومة. (4) احتدم الخلاف حول حدود منطقة أبيي التي حولت في التاريخ البعيد من الجنوب إلى الشمال، وحلاً لذلك الاختلاف اتفق الطرفان على تشكيل مفوضية لترسيم الحدود تتكون من (15) عضواً (5) منهم يسميهم حزب المؤتمر الوطني الحاكم، و(5) تسميهم الحركة الشعبية، والآخرون هم خبراء دوليون من الدول الراعية للمفاوضات. وأكد تقرير الخبراء أنه فشل في معرفة حدود 1905م، ومع ذلك منح دينكا نقوك منطقة واسعة تمتد أكثر من (100) كيلو متر شمال بحر العرب كانت تعتبر من صميم أراضي عرب المسيرية. وبما أن المسيرية عرب رحل ينتقلون معظم شهور السنة شمالاً وجنوباً من بحر العرب فليست لديهم قرى مستقرة مثل الدينكا الذين يعملون أساسًا بالزراعة، لكن أسلوب معيشتهم المترحل ينبغي أن لا يسلبهم حقهم في ملكية أراضيهم التي عاشوا فيها مئات السنين، وقد رفضت حكومة السودان تقرير الخبراء فورا على أساس تجاوزه صلاحيات المفوضية في ترسيم حدود المنطقة. استمر الخلاف بين الشريكين بسبب مشكلة أبيي ثلاث سنوات، بعد تسلم تقرير الخبراء انسحبت الحركة محتجة من مجلس الوزراء الاتحادي، ووقعت معارك دامية في المنطقة قتل وشرد فيها الآلاف، وأخيراً توصل الطرفان في يوليو 2008م إلى عرض النزاع على المحكمة الدائمة للتحكيم في لاهاي بعد إصرار الحكومة على رفض تطبيق تقرير الخبراء. (5) الإدارة الأمريكية دفعت في سبتمبر 2010م بمُقترح حول منطقة أبيي طرحت في صلب بنوده أن يصبح دينكا نقوك والمواطنون الآخرون المقيمون على طول السنة في منطقة أبيي مؤهلين لأن يصبحوا مواطنين بجنوب السودان، وأن المسيرية والمجموعات الرعوية الأخرى التي لا تُعتبر مُقيمة على مدار السنة، بيد أنهم يعبرون بانتظام منطقة أبيي لأغراض رعي الماشية والحركة عبر منطقة أبيي سيحتفظون بمواطنتهم السودانية، إلا أن المُقترح وجد الرفض القاطع من المؤتمر الوطني. ويتركز الخلاف بين الجانبين (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية) على من يحق له التصويت، فبينما ترى الحركة الشعبية أن التصويت يجب أن يكون حِكراً على قبائل دينكا نقوك، يرى حزب المؤتمر الوطني أن حق التصويت يجب أن يشمل كذلك قبائل المسيرية الرعوية التي تقضي عدة أشهر من العام في أبيي. وقبل أن يجف حبر المُقترح الأول دفعت الولايات المُتحدة الأمريكية بمقترح جديد يقضي بضم أبيي للجنوب في إطار صفقة شاملة مع الشمال حول ترسيم الحدود والعلاقات الشمالية الجنوبية بعد استفتاء تقرير المصير في جنوب السودان. (6) في 22 يوليو 2009م أصدرت محكمة التحكيم الدولية في لاهاي قرارها، وقضى بتقليص حدود منطقة أبيي من (18500) كلم مربع إلى (10) آلاف كلم مربع، وبناء عليه أصبحت الحدود الشمالية للمنطقة عند خط العرض (10.10) واعتبرت المحكمة أن لجنة الخبراء المكلفة بترسيم حدود المنطقة، قد تجاوزت المهمة الموكلة إليها، وألغت قرارها بشأن الحدود الشماليةوالشرقيةوالغربية، واعتمدت ترسيمها للحدود الجنوبية. بالتالي أخرج القرار حقول النفط في منطقة هجليج خارج أبيي، ليبسط الشمال سيطرته على هذه الحقول، كما أقرت المحكمة بحقوق الرعي للقبائل في منطقة أبيي بغض النظر عن نتيجة قرار التحكيم. ورأت المحكمة أن الحدود الغربية للمنطقة هي خط طول (27.50) درجة والحدود الشرقية عند خط طول (29) درجة، وأبقت المحكمة الحدود الجنوبية عند دائرة عرض (10.10.10). لكن مسألة الحدود ما زالت تثير توتراً بعد إعلان اللجنة المكلفة بترسيم الحدود التي شكلتها رئاسة الجمهورية أنها تواجه تهديدات بالمنطقة.