سياسي معتق وعفوي الخاطر ذو مسحة صوفية أكسبته العديد من الصفات الحميدة التي يندر أن يتحلى بها سياسي خرج للسياسة بخيرها وشرها ومكرها ودهائها، فكان أبعد ما يكون عن ذلك.. عاصر عتاة السياسيين السودانيين عبر مسيرة فاقت الستة عقود من الزمان، ديدنه البساطة وطابعه الأريحية، لم يتغير ولم يتبدل عندما جاءته الوزارة في فترة الديمقراطية الثالثة فكان وسط الشعب والكادحين على الدوام، متمسك ومدافع بشدة عن العرف والتقليد والموروث ويجمع على الدوام بين الأصالة والتجديد، وهو في خضم العمل الحزبي كان ينأى بنفسه عن الدائرة الضيقة ولم يكن من أصحاب الياقات البيضاء الذين ينبهرون بالسلطة، كما لم يكن من القيادات السياسية المعلبة، متصالح مع نفسه ومع الآخرين وعندما انقسم الحزب الاتحادي الديمقراطي لم يقف مع طرف ضد الآخر، بل احتفظ بعلاقات ووشائج جعلته قريباً من الكل، وعندما جاءت الانقاذ وفي أيامها الأولى كان خارج السودان وقتها وهو وزير في حكومة الديمقراطية الثالثة فرفض إعلان اللجوء السياسي عندما دعاه المعارضون لذلك، بحجة أن هذا الموقف لا يشبهه ولا يتوافق مع مبادئه ودينه وممسكاته الوطنية فقرر العودة الفورية للبلاد، إنه الاستاذ عمر الشيخ إدريس حضرة وزير الدولة للاسكان الأسبق القطب الاتحادي المعروف كتاب وقلب مفتوح وباب لا يعرف الانغلاق ولا المواربة، حاورناه في كل شيء يهم الساحة السياسية عموماً والساحة الاتحادية على وجه الخصوص وذلك عبر حلقات حيث بدأنا هذه الحلقة بالسؤال... ٭ ماذا عن لقائك الأخير بمولانا محمد عثمان الميرغني رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل؟ لقد حضر لي في منزلي الابن محمد عثمان ونقل دعوة الميرغني ورغبته في استصحابي لرحلة ولاية كسلا الأخيرة، فقلت له بلِّغ اعتذاري عن المشاركة في هذه الزيارة لمولانا الميرغني وعند العودة سنلتقي. بعد ذلك اتصل بي هاتفياً مولانا الميرغني شارحاً أهمية الزيارة ومدلولاتها وما تعنيه لأسر الختمية. فقلت له أرجو أن تعذرني لأننا لا زلنا نحمل في نفوسنا الكثير جراء الإهمال الذي حدث لنا، ولكن عندما تعود سأسعى للقائك. ٭ عندما هاتفك الميرغني بغرض دعوتك للمشاركة في جولة كسلا الشهيرة، ما هو الشعور والاحساس الذي تملكك وقتذاك بعد طول مدة حملت العديد من الاستفسارات وعلامات الاستفهام؟ لقد شعرت حقيقة بل وتأكدت من خلال حديثه معي أن مولانا الميرغني لم يكن عاتباً علي في شيء ولا يحمل أي زعل أو ضيم تجاهي جراء الصراحة المعهودة لدي، فهو يعلم تماماً أنني رجل صريح وأقدم النصائح وأقول الحقيقة أنَّى كانت. ٭ هل يمكننا القول اذن انه قد انتهت الجفوة والقطيعة بينك وبين مولانا؟ لم تكن هناك قطيعة بيني وبين مولانا محمد عثمان الميرغني أبداً، واذا طال الزمن علي لقائي به فهذا لا يعني أن هناك جفوة بيننا لأن حبل الود القائم لم ينقطع أبداً، ومنذ أن خرجت من المؤتمر الوطني وعدت لبيتي الكبير الحزب الاتحادي الديمقراطي وحتى الآن لم يتحدث معي مولانا الميرغني في أي شيء عن السياسة، ولكن عندما تتاح لي الفرصة سأذهب له وسأكون بنفس الصراحة، وسأدعو للتوحد والائتلاف بين الحزب الاتحادي والمؤتمر الوطني من أجل الوطن. ٭ أي سياسي يخرج من حزبه وينضم لحزب آخر ثم يعود مرة أخرى غالباً ما يفقد قيمته ولونه وطعمه وبريقه كفلسفة عامة فهل شعرت بهذا الاحساس بعد عودتك لحزبك؟ أنا لم أشعر بشيء من هذا لأن الذين ذهبت إليهم منذ أحداث شعبان في العام 1973م وإلى الآن هم لم ينقطعوا عني، وبالتالي أهل المؤتمر الوطني والحركة الاسلامية لم يكونوا غرباء بالنسبة لي. ٭ هناك وحدة اتحادية غائبة وظروف سياسية متسارعة وصناديق إقتراع قادمة كيف ترى البيت الاتحادي من واقع هذا المنظور؟ حقيقة وكما ذكرت لك فأنا إيماني قاطع بضرورة وحتمية وحدة الاتحاديين بقيادة الميرغني كما أرى أنه من مصلحة الوطن المستهدف من قوى خارجية أن يتحالف الحزب الاتحادي الديمقراطي مع المؤتمر الوطني، وأشجع كل المجهودات الخيرة التي تهدف لوحدة الاتحاديين والتي تقوم بها شخصيات مثل صلاح إدريس وأحمد الجعلي وأحمد علي أبو بكر وبقية أصحاب المبادرات والتي نتمنى أن تتكلل مساعيهم بالنجاح وأن يصل الجميع إلى حد ينهي دائرة الفراق والطلاق ، وكم كنت أتوقع والبلاد مستهدفة في الدين والهوية والثروات أن لا يتقدم الحزب الاتحادي الديمقراطي بمرشح لرئاسة الجمهورية مع إحترامي الكامل لابني حاتم السر الذي أعرف كفاحه ونضاله منذ أن كان صغيراً في صفوف الحزب، وبالتالي وعلى حسب تصريحات مولانا الميرغني المؤيدة للبشير والداعمة له في وجه الاستهداف الخارجي كنت كما قلت لك أستبعد أن يتقدم الحزب بمرشح لرئاسة الجمهورية، وإلى الآن أنا أجدد الدعوة للتحالف بين الحزبين وأتمنى أن نتفق على رؤية واحدة تؤمن على وجود البشير في فترة الرئاسة القادمة، فالبشير قطعاً سيكتسح الانتخابات، وآخر لقاء شهدناه لتأييده كان هو لقاء الطرق الصوفية الأخير ومعروف أن أهل الطرق الصوفية والمشائخ لهم قدرهم في السودان، ومعلوم دفعهم واسنادهم الجماهيري الذي لا يخرج عنهم، فمؤيدو شيوخ الطرق الصوفية لا يخرجون عن أياديهم البتة مهما كان وبذات القدر أنا شهدت أيضاً وقفة الأقباط مع البشير بأعداد كبيرة، أضف إلى ذلك التأييد الفئوي والولائي الجماهيري الكاسح، لذلك أجدد طلبي ودعوتي للاتفاق على مرشح واحد لرئاسة الجمهورية. ٭ كيف تنظر لترشيح ياسر عرمان؟ لا أؤيده ولن أعطيه صوتي وأعتقد أنه سيخسر هذه المعركة بلا شك مع احترامي الكامل للحركة الشعبية ولياسر عرمان، وكما ذكرت كنت أتوقع وإلى اليوم بل وأتمنى أن تأتلف الحركة الشعبية مع المؤتمر الوطني أكثر ، وكم تمنيت أيضاً دفعاً للاستقرار وتعزيزاً للسلام ومسيرته لو أن الأربعة أحزاب المؤتمر الوطني وحزب الأمة والحركة الشعبية والاتحاديين اتحدت. ٭ هل تدعو هذه الاحزاب لأن تسحب مرشحيها من رئاسة الجمهورية لإفساح الطريق أمام الرئيس البشير من أجل الاستقرار المنشود؟ نعم أدعو هذه الاحزاب للسحب الفوري لمرشحيها من رئاسة الجمهورية للأسباب التي ذكرتها والتي تهدف لمصلحة الوطن واستقراره ، وأنا شخصياً طلب مني كثيرون أن أترشح في دائرتنا فرفضت هذا لأن ضمانات الفوز لا بد أن تتوفر، فالمعركة هي معركة وطن والكارثة ان أتت ستعم الكل والبلاد مستهدفة وبالتالي فعلى الاحزاب أن تقيم الأمور تماماً ولهذا قلت لك أنني أتمنى ان تفرز الانتخابات القادمة وحدة رباعية بين أحزاب الأمة القومي والحركة الشعبية والاتحادي الديمقراطي والمؤتمر الوطني حتى تتجنب البلاد المزالق وتتغلب على الاستهداف. ٭ بعودة للوراء قليلاً فقد شهدت الساحة السياسية تحركاً كبيراً لك لإزالة الجفوة بين الراحل الشريف زين العابدين الهندي ومولانا محمد عثمان الميرغني ونعلم أن تفاصيل وأسرار وخبايا عديدة أحاطت بهذا الدور الماكوكي والذي إن نجح لكان قد توحد الاتحاديون منذ وقت مبكر ولأن الزمان قد انطوى على تلك المشاهد والمواقف والأحداث ولكن فقط نريد إضاءات مختصرة لما حدث فما هو المستخلص من ذاك التحرك؟ حقيقة تلك الخطوة كانت قد بدأت بلقاء تم بيني وبين الرئيس البشير وأيضاً رحلتان ماكوكيتان قمت بهما للسعودية والقاهرة وقتذاك للالتقاء بمولانا محمد عثمان الميرغني وذلك بعد أن اتفقت مع الأخ الشقيق الراحل المقيم الشريف زين العابدين الهندي على إزالة الجفوة بينه وبين مولانا الميرغني ولم شمل الاتحاديين، وأعتقد أن هذا الاتفاق لو كان قد تم بالصورة التي وضعتها له لتم لم شمل الاتحاديين وهنا كان المشوار طويلا ومليئا بالتفاصيل المثيرة والاحداث التي لا يسع المجال لسردها. ٭ نعلم أن هناك قصة طويلة يصعب سردها في رحلة سعيك للتقارب بين الراحل الشريف زين العابدين الهندي ومولانا محمد عثمان الميرغني ما هي الظروف والملابسات التي كنت تراها سانحة وفرصة لا تتكرر كان يجب استثمارها؟ حقيقة كما قلت لك أنا لم أتوقف يوماً من المساعي الرامية لتوحيد الحركة الاتحادية فهو هم حملته في السابق ولا زال، فاتصلت بالراحل الشريف زين العابدين الهندي وعرضت عليه فكرة للاصلاح بينه وبين رئيس الحزب، وكانت الفكرة هي بمناسبة احتفال كبير يقوم به السادة الحضراب احتفاء بشفاء الشريف، ويحضره الاشقاء والأحباب والوطنيون جميعاً، ويخاطب الحشد الميرغني عبر الهاتف، والراحل السيد أحمد الميرغني كعادته وكعهد الناس به كان أول السياسيين وأكثرهم سعادة بهذا المسعى، ولأن الرئيس البشير هو في اعماقه اتحادي أزهري وطني سوداني أصيل أسعده المسعى لتوحيد الاتحاديين. ٭ عندما إلتقيت أول مرة بالرئيس البشير كيف كان انطباعك وشعورك؟ بكل صراحة أكبر لقاء تاريخي جمعني بالرئيس كان في منزله وقابلني بدون بروتكول وسلم علي بحرارة وبدأنا نتحدث عن هموم الوطن، وكعهدي بالصراحة التامة قلت للرئيس لقد قابلتك قبل هذا اليوم وتحديداً في العام 1991م مع د. الحبر يوسف نور الدائم وقلت لك «لو عايز الاتحاديين فبابهم هو مولانا محمد عثمان الميرغني والشريف زين العابدين الهندي» وطلبت منه أن يوقف الحملات الاعلامية والسعي لوحدة الاتحاديين، كما إلتقيت أيضاً بالاستاذ علي عثمان محمد طه وتحدثنا كذلك عن هموم الوطن. وأعطيت الرئيس وقتها مقالاً للراحل محمد توفيق الذي يكتب عمود «جمرات» الشهير الذي قال فيه «عمر حضرة رجل ختمي على السكين وواضح وصريح وأنشط من قابلت من وزراء الديمقراطية الثالثة». وأنا جالس مع الرئيس البشير لم أشعر في أي لحظة من اللحظات أنني أتحدث مع عمر البشير كرئيس جمهورية ولكن أتحدث إلى رجل بسيط جداً في حديث يصدر من القلب إلى القلب. فقلت له أشكر الاخوة في المؤتمر الوطني وعلى رأسهم د. نافع علي نافع والأمين دفع الله الذي كان حلقة الوصل بيننا ولقد استلمت عضوية المجلس القيادي للمؤتمر الوطني ودعيت لاجتماع لمناقشة أجندة مختلفة وكان يشرفني أن ألبي هذه الدعوة، والمؤتمر الوطني وبهذه الصيغة يعتبر حزبا منضبطا، ولكن قلت له يا ريس أنا لازلت على عهدي الختمي الاتحادي ورغم بعدي عن الاتحادي لن أنتمى لأي حزب آخر سواء أكان المؤتمر الوطني أم غيره، ولكن سوف أقف معك أنت ود البلد الأصيل، وأتمنى أن أقف وأرشحك في الانتخابات لرئاسة الجمهورية ، وقلت له لم يهاجمني أحد من أهل الانقاذ بكلمة سيئة أو شتائم منذ شعبان 1973م، وأننا كاتحاديين على مستوى الأسرة الصغيرة كنا توأم للاسلاميين عندما كانوا طلبة قبل أن يصيروا دكاترة وحكاماً. واستمرت هذه الأخوة إلى يومنا هذا، ولكن بكل أسف الاخوة الاتحاديون والكبار منهم لم يراعوا 61 عاماً قضيتها في هذا الحزب، ولمجرد خبر في الصحف أني انضممت للمؤتمر الوطني وقعوا فوقي شتيمة، وكانت عباراتي في ذاك الوقت وإلى الآن هي «أقول لمولاي محمد عثمان الميرغني أنا ختمي وخليفة والدي ولن أتبدل