نهار كل جمعة يتّجه الكثير من المصلين تلقاء مسجد الشهيد بالخرطوم، حيث خطيب وإمام المسجد الشيخ عبد الجليل النذير الكاروري، الذي تتَّسم خطبه عادةً بمواكبة الأحداث ومحاولة تأصيلها. الكاروري الذي لا يظهر في الملمَّات السياسية بشكل معهود هو عضو المكتب السياسي للمؤتمر الوطني. والرجل موصوف من قبل الكثيرين بأنه على درجة عالية من الحضور والتفاعل مع قضايا المواطنين، لا يمل الحديث فيها. في مبتدر هذا الحوار كان متحمَّساً للنقاش في كل شيء حتى في المواضيع التى ترتفع بالعمل إلى مقام العبادة وتنخرط بالدين في ركب السياسة، وتصل بين التقانة والتقوى. وبما أنه ليس خطيباً لمسجد الشهيد بالخرطوم فقط الذي يحرص قادة المؤتمر الوطني على أداء الصلوات فيه وإنما هو أيضاً أحد الجنود المحاربين في صفوف الحركة الإسلامية، وصاحب التاريخ المعروف الذي ارتقى به لمقام الشاهد على أحداث العصر؛ فقد هرعنا للقياه فور تلقينا الموافقة على إجراء هذه المقابلة معه. (الأهرام اليوم) جلست إلى الشيخ الكاروري بالمقرن، ودار الحديث معه في مختلف القضايا، تقرير المصير لشعب الجنوب، الانتخابات، أزمة سوق المواسير، تقسيم مياه النيل، أحاديث الترابي التجديدية، وغيرها من تفصيلات الراهن السياسي والاجتماعي مثار النقاش.. معاً ندلف لإفاداته: بدا واضحاً للكثيرين أن أئمة المساجد أيام الانتخابات انحازوا بشكل مباشر لمرشحي المؤتمر الوطني، في حين أنك عضو مكتب سياسي وحاولت ألاّ تجهر بذلك، فهل كان ذلك بغرض التمويه؟ ليس تمويهاً ولكنه أداء أمانة. فالمسجد للجميع، وأنت إذا في السياسة أصبحت حزبياً ستفرّق المصلين. فالمطلوب منك أن تعمل سياسة شرعية وسياسة عامة فيها توجيه، ولكن السياسة الحزبية مُضرَّة للمسجد والسياسة الشخصية، وهذا ميزان بالنسبة لي منذ أمد طويل، وحتى في الصحافة عندما كنتُ مرشحاً وإماماً كنت أوازن بين الاثنين. ولكن يؤثر عنك مقولة: «إن هنالك من خذله الله قبل الانتخابات لأنه لم ينصر الله»، فكيف تتحقق نصرة الله في الانتخابات؟ ومن هو ذلك الذي أصابه الخذلان؟ من خلال الإعلان، الشخص الذي أعلن أنه لن يقول بسم اللّه، وأنه أول ما يتولى الأمر سيبيح الخمر، فهذا لم يتبقَ لنا غير أن نمنحه درجة فوق الصفر، وهو بذلك حكم على نفسه من البداية.. وهناك الذي سألوه هل تصلي؟ فردّ أنه بصراحة لا يصلي.. والذي قال إن رمزه يتكوّن من الهلال رمز المسلمين و(حربة) أفريقية مقدسة، وأنكر جهاد المهدية! هذه وقائع صريحة ومعلنة ولذلك لابد أن تكون للمنابر كلمتها، فهؤلاء خُذلوا لهذا الموقف، حتى فاتهم السباق. لم يفُتهم السباق ولكنهم أعلنوا انسحابهم بمحض إرادتهم لأنهم تأكدوا أن هذه الانتخابات لن تكون نزيهة كما ذكروا؟ المهم منبرنا قال إنه حصل لهم خذلان من داخلهم، من ظروفهم، الخذلان جاءهم من هذه الكلمات، ربنا يحاسب بالكلمات خاصة المسلمين، فالمرشح هو في مستوى الحاكم، يحاسب على كلامه، والرقابة الربانية عليه كبيرة. لكن أغلبية المرشحين كانوا مسلمين وبعضهم يتبنى مشروعاً إسلامياً للحكم؟ أصلاً الرقابة للمسلمين؛ فلو كان الحساب للكفار لكانت أمريكا حُرقت، فنحن لا نعلن خروجهم من الملة، ولا نقول فلان كفر، ولكن نقول للناس أنتم كأفراد وجماعات ظروفكم لا تأتي عشوائياً، وإنما حسب نيّاتكم وتعبيراتكم وبرامجكم. حسناً.. يلاحظ أن صوت أئمة المساجد خفت تماماً بعد إعلان نتيجة الانتخابات بالرغم من أن المعارضة ركزت على أن العملية الانتخابية صاحبها تزوير كبير وخيانة للأمانة؟ لم نصمت نحن، وإنما المواطنون أيضاً صمتوا وهذا يوضح أن المواطن راضٍ عن النتيجة، ولولا أن هناك أناس عملياً ذهبوا وصوّتوا للشجرة والبشير لكانت البلد قد امتلأت بالتظاهرات، وكنا أصبحنا مثل كينيا وإيران، فالمواطن لم يتّهم الأجهزة بأنها زوّرت، وهذا التصويت كان نتيجة رأي عام، والمساجد جزء من هذا الرأى العام، الناس راضون عن النتيجة والمساجد راضية. ولكن الناس مغلوبون على أمرهم ومحاصرون بالخوف؟ لا.. كيف يكونون مغلوبين على أمرهم ونحن في مرحلة تحوّل ديمقراطي، فلماذا لم يعبّروا عن ذلك، ولهم حق التظاهر و... (مقاطعة): لكن الأجهزة الأمنية والشرطية حذّرت تماماً من أي خروج للتظاهر أو أي أشكال تعبيرية في الشارع رافضة للنتيجة؟ على أي حال هناك التعبير القانوني وهو متاح بالطعون، وإذا كان هنالك من له شك يستطيع أن يطعن قانونياً. حق التعبير السياسي تحديداً وإبداء الرأي المخالف لماذا لا يبيحه أئمة المساجد ويعتبرونه فقط خروجاً على الحاكم، رغم أن القوانين أقرّت به؟ عندما تصل حد الخروج على الحاكم، الذي هو محل شورى، فهذه فيها حرج على الإنسان في دينه، ولكن النصيحة مطلوبة لأن الدين النصيحة، وأنا دائماً أطالب بألاّ يكون المنبر مادحاً وألاّ يكون قادحاً ولكن يكون ناصحاً، وأحياناً المعارضة تجنح لحرق المعبد كله، بمعني أنها تعمل إجراءات موالية للعدو، ليست ضد الحكومة ولكنها ضد الدولة نفسها، وهى مشكلة كبيرة، فالذين عملوا النظام الديمقراطي عملوا في الأول دولة مؤسسة، بعد ذلك عملوا البرلمان، وهو منقسم؛ جزء منه يمثل الدولة والبعض يعارض الحكومة، فاللعبة واضحة جداً في هذا الإطار، ولكن أحياناً المعارضة تخرج على الدولة نفسها! المسافة ما بين الخروج على الحاكم وحق التعبير السياسي تبدو بالنسبة لكم قصيرة جداً، إن لم تكن معدومة بالمرة.. وهذا الرأى الذي تجهرون به قد يصادر ذلك الحق تماماً؟ طبعاً إذا كان الحاكم قاهراً ممكن، والآن في بلاد كثيرة ليس هناك فرصة للكلمة، وليس هنالك حرية في العالم العربي كما في السودان، وأيضاً هذه جاءت من البيئة المحيطة، ونحن في أفريقيا هنالك من ليس له حكومة، وفي العالم العربي الحكم متوارث، وهذه منحتنا نسبية في السياسة ونسبية في الاجتماع. الدكتور الترابي ذكر أن هنالك تغوُّلاً على الحريات وخيانةً للأمانة وشراءً للذمم صاحَب العملية الانتخابية برُمَّتها.. فبماذا تعلِّق على رأي الترابي الذي يعبِّر عن وجهة نظر فقهية في غالب الأمر؟ هذه الأقوال ليس لديها فرصة حتى تكون حقاً إلا أن تذهب كطعون ويُحكم لها أو عليها، وإلا هى أقوال سياسية. في نفس الاتجاه الترابي تحدث عن قضايا تجديدية أثارت جدلاً كبيراً في الوسط الإسلامي، فكيف تقيّم تلك الأحكام التى صدرت عنه بصورة عامة؟ تحتاج أن تُطلق مثالاً. فالترابي أثار قضايا عديدة ولو كنت تقصد إمامة المرأة وعذاب القبر، أولاً العقائد لا تحتمل أي تجديد وهذا من الثوابت، وبخصوص إمامة المرأة لا يوجد أي مذهب يبيح للمرأة أن تصلي في الصف الأول دعك من أن تكون إماماً، وفي المسيحية واليهودية لا توجد امرأة حاخام أو كاردينال، في الملل كلها ليست هناك امرأة وصلت درجة من الدين فيها نبوة أو إمامة وهى ظروف حواء طالما أنه عندها موانع من الذكر والصيام ولذلك ليس لها طريقة في أن تنافس في الإمامة الدينية، ونحن لا ندري من أين جاء الترابي بهذه الأحكام. ولكن أحاديث الترابي هذه ليست جديدة؛ فقد أطلقها في الماضي ولم تعترضوا عليها، وعندما أصبح في المعارضة وقال بها تعرَّض لهجوم شديد حتى من تلاميذه؟ بالنسبة لي كنت أناقشه فيها في أكثر من مجلس خاص وعام، ما كان هنالك اعتراض، ولكن كان هناك نقاش، وكذلك أيضاً كان هنالك حديث عن أنها آراء شخصية، ويس عمر الإمام سُئل أكثر من مرة فقال: هذه اجتهادات الترابي، وليست آراء حزبنا.. كان هذا قبل المؤتمر الشعبي. طيب يا دكتور، الحوار بين الدين والسياسة توقف تماماً في محطات قديمة والخطب أصبحت تقريرية في نطاق الدعوة الضيق، فكيف يُبعث الدين في أمور الحياة عامة وما يتصل بحياة الناس من معاناة وشواغل؟ والله أظن أن الذي أمارسه في مسجد الشهيد هو نحو من ذلك؛ لأننا نناقش القضايا حسب وقائعها ونردها لأصولها، وأنا عامل هيكلة للخطبة بحيث أن يكون الأول ثقافياً والثاني سياسياً وأحياناً كثيرة يكون الثاني تطبيقاً للأول مثلما طرحناه في آخر خطبة بخصوص اتفاقية مياه النيل، وتحدثنا عن النيل في القرآن والأدب والشعر، وفي الجزء الثاني تحدثنا عن أزمة مياه النيل ما بين اتفاقية شرم الشيخ وعنتبي، ونحاول ربط مثل هذه القضايا الحية بالأصول حتى نمنحها نظرة تأصيلية، وحسب تقديرنا فالناس متابعون وراضون عن هذا النهج. نواصل