موسم الخريف في كردفان يعتبر من المواسم المهمة بل وفي كل بقاع الأرض لما يحمله من خير وفير من مياه تروي الزرع والضرع وخضرة تسرُّ الناظرين.. وتنبت الحشائش لتكسو الأرض لوناً أخضر يزيدها بهاءً وجمالاً.. ويبدأ موسم الخريف في أواخر شهر مايو وأوائل يونيو حيث يسبقه صيف حار وبعدها تكتسي السماء باللون الأبيض لون السحب فتظلل الشمس وتجلب البرودة اتقاءً لحر الصيف.. وبعدها تلوح في الأفق تباشير الخريف حيث تهب نسمة باردة يُطلق عليها (الدعاش) فتتسلل إلى الصدور بصورة رطبة ينتشي لها الشخص المتنفس والتي تُعلن بداية الرُشاش وقدوم الخريف بكل خيراته حيث يفرح له الصغير قبل الكبير.. وحتى الحيوانات تحس بذاك القادم لما له من منفعة، حيث تنبت الحشائش وتنمو وبالتالي يتوفر المورد المائي لها ويجد الحيوان ضالته في المياه المتوفرة في الحفائر والخيران والوديان وحتى كل شبر من الأرض. ونجد الخيران الكبيرة مثل خور (أبوحبل) وخور (أبوزعيفة) وغيرهما من الخيران الكبيرة تملئ وتفيض في مساحات واسعة ناشرة الخير معها حيث تأتي من مسافات بعيدة.. ونجد المزارعين يحملون (التيراب) وهي البذور التي يزرعها المزارع مثل الذرة والدخن والفول واللوبيا وحب البطيخ والويكة، وثم يحملون أدوات الزراعة (الجراية ، الكدنكة، الطورية) ويتجهون إلى مزارعهم في الصباح الباكر زرافات ووحدانا ترافقهم أسرهم متجهين صوب مزارعهم ليقوموا في البدء في مرحلة (الكديب) وهي المرحلة التي تسبق نزول الخريف حيث يقومون بنظافة الأرض من آثار الزراعة السابقة بحرق ما تبقى من القصب وتنظيف وقطع الشجيرات الصغيرة والقيام بتسوير الحقل بالشوك تحسُّباً ومنعاً لدخول الحيوانات الضالة.. وقبل نزول أول مطرة يقومون بالزراعة وهي ما يسمى بمرحلة (الرميل) وهي دفن البذور و التيراب في الأرض متفائلين بأن تهطل مطرة لريه ومحو الآثار حتى لا تقوم الطيور وبعض الحيوانات بنبشه وأكل البذرة مما يستدعي المزارع للقيام بالزراعة مرة أخرى.. ولكن حين تأتي الأمطار نجد المزارع في قمة فرحته لأن ما تم (ترميله) سيكون في مأمن بعيداً عن الحشرات وبالتالي يروى بمياه الأمطار مما يضمن نباته. وتأتي المرحلة الثانية في الزراعة هي مرحلة (حش المُر) وهي نظافة الأعشاب التي تنمو وسط الزراعة. وفي مرحلة (الجنكاب) وهي ازالة ما تبقى من الحشائش وحينها يكون النبات قد ارتفع إلى مرحلة معقولة يكون فيها مستعداً للدفاع عن نفسه من الطفيليات.. وتتجلى سعادة المزارع هنا عندما يجد زرعه قد اخضر وبدأت (قصيباته) تتمايل فيقوم بحراسته إلى أن يؤتي أكله حصاداً طيباً.. المزارعون في كردفان دوماً ما يتعاونون في الزراعة حيث يقومون بمساعدة بعضهم البعض وذلك يأتي في شكل نفير والذي يبدأ في الصباح الباكر وينتهي في منتصف النهار. وقد يقدمون تلك المساعدة في أي من تلك المراحل. وهناك مساعدة أقل من النفير وهي (السربة) وتتم دائماً في العصريات تمثل تكافلاً اجتماعياً بين المزارعين. مرحلة الحصاد هي قمة سعادة المزارع فهو يرى يوم نجاحه في الزراعة وبالتالي لابد له أن يقدم الجوائز للأسرة من ملابس وشراء أشياء جميلة. وتكثر فيه الزيجات بين الشباب. الخريف في كردفان بكل بروقه ورعوده وفيضاناته وسيوله، يظل ذا نكهة وحلاوة ما يصعب التعبير عنه. فهو لوحة جمالية وهبها الخالق لإنسان هذا الإقليم. ولا أنسى أن أذكر حين هطول الأمطارلأربع أو خمس ساعات، يمكنك بعدها أن تلبس أحسن ما لديك وتخرج للشارع دون أن تجد مياهاً راكدة فالأرض الرملية قد ابتلعتها في لحظات لتترك منظراً خلاباً.. فلله درك يا كردفان.. الغرة أم خيراً جوة وبرة..