كان الرئيس الليبي السابق معمر القذافي قد نصب خيمته في وسط بيت الضيافة مع الرئيس البشير في إحدى زياراته للسودان في عقد التسعينيات، وطبق يبحث عن الفريق طيار الفاتح عروة حتى وجده، وطلب منه أمام الرئيس البشير أن يزوره في ليبيا لأنه يرغب في الحديث معه. وكان الفريق الفاتح عروة يدرك بحسه الأمني أن هذه الدعوة بمثابة استدراج لتصفية خصومة قديمة مثلما فعل مع المرجع الشيعي موسى الصدر. وكان القدافي لا ينسى الاختراق الذي نجح فيه جهاز أمن نميري واستطاع الفاتح عروة ورفاقه تحويل سفينة سلاح ليبية إلى ميناء بورتسودان في أكبر ضربة توجه للمخابرات الليبية وتشكك في احترافيتها وذكائها وحسن تقديرها. لكن تظل أغرب الزيارات التي لم يكشف عنها التاريخ حتى الآن إلى باب العزيزية لمقابلة القذافي في النصف الأول من التسعينيات هي التي صحب فيها الشيخ الراحل حسن الترابي كلاً من نائب رئيس الجمهورية حينها اللواء الزبير محمد صالح والدكتور مصطفى عثمان إلى طرابلس استجابةً لطلب القذافي لمقابلة الترابي في سعيه لتأسيس كيان إسلامي عالمي. كانت الرحلة براً أثناء الحصار الدولي على ليبيا، وكان السودان يسعى في المقابل إلى تأمين احتياطي من النفط مع ازدياد آثار المقاطعة الاقتصادية والعزلة الدولية. وانتهت الزيارة إلى خيبة أمل مشتركة إذ لم يوافق الترابي على تأسيس كيان إسلامي عالمي يرأسه القذافي مطالباً أن تبتعد عنه الحكومات، ومن جانبه رفض القذافي تأمين حصة من النفط لإنقاذ السودان من ضائقته الاقتصادية. لم ينس القذافي أن يمارس لعبته المفضلة في إرسال رسائله الملغومة إذ اصطدمت سيارة ليبية دون لوحات بالموكب مما اضطر سائق السيارة التي تحمل الشيخ الترابي واللواء الزبير نائب الرئيس ومصطفى عثمان للانحراف بعنف عن الطريق. اختلف البعض في تفسير الحادثة هل كانت محاولة اغتيال للشيخ الترابي بعد أن عجز القذافي عن استدراجه وحيداً عقب رفضه أن يتولى رئاسة الكيان الإسلامي العالمي الوليد، أم أنها مجرد رسالة تحذيرية للجميع. رفض الرئيس البشير الاستجابة بدءاً لدعوة القذافي للشيخ الترابي لزيارة طرابلس وكانت ذكريات اغتيال موسى الصدر حية في الأذهان. وبعد مراجعات وتقييم للموقف وافق بشروط قاسية وكانت توجيهاته لنائبه اللواء الزبير ود.مصطفى عثمان ألا يتركوا الشيخ الترابي وحيداً مع القذافي في ليبيا لأنه لا يأمن جانبه، واشترط عليهما صحبته حلاً وترحالاً حتى عودته سالماً للسودان. كان الشيخ الراحل حسن الترابي يعيد صلاته مرة أخرى في الفندق لأن القذافي حرص على إمامته في كل الصلوات. هذه زيارة جديدة للتاريخ لمراجعة المواقف السياسية بين السودان وليبيا في عقد الثمانينيات بين الرئيسين الراحلين جعفر نميري ومعمر القذافي. وقد وصل العداء بين الرجلين حدّاً جعل الاستهداف المفتوح بالغزو أو التصفية والاغتيال السياسي هو سيد الموقف. قابلت الرئيس الراحل جعفر نميري في رحلة الاستشفاء الأخيرة للولايات المتحدة، وكنت حريصاً أن أختبر ذاكرته السياسية رغم السمت الاجتماعي للحديث مع السودانيين، وسألته عن الرئيس الليبي السابق معمر القذافي فقال لي كلمة واحدة: (أمه يهودية)، ولم يتذكر أن يدخل في تفاصيل العداء التاريخي بينهما منذ القمة الثلاثية الشهيرة في ليبيا 1970 التي أعلن فيها جمال عبد الناصر مشروع الوحدة الثلاثية بين السودان ومصر وليبيا. وكذلك ملابسات قرش الكرامة حتى دعم القذافي للحركة الوطنية 1976 وضرب أم درمان بالطائرة العسكرية. هذه مراجعات في أوراق وكالة المخابرات المركزية وحروبها السرية التي بسطها الصحفي الشهير بوب وودورد في كتابه (الحجاب: الحروب السرية لوكالة المخابرات المركزية في العالم). في العام 1983 كان مدير المخابرات المركزية وليم كيسي يصارع في واشنطون تأمين موافقة الكونقرس لخطة عمله السرية في نيكاراغوا وإجازة مبلغ 25 مليون دولار لتمويل العملية. وفي ذات الوقت كان الرئيس جعفر نميري يزور واشنطون في عهد الرئيس رونالد ريغان، وكانت قضية ليبيا تمثل قلقاً لمدير المخابرات المركزية وليم كيسي وكذلك الرئيس جعفر نميري الذي كان يبحث عن تعزيز اختراقات جديدة ضد نظام معمر القذافي، وكانت واشنطون مكاناً مناسباً لتنسيق الأمر. رغم سرية المقابلة التي أجراها الرئيس جعفر نميري في واشنطون مع أحد زعماء المعارضة الليبية إلا أن وليم كيسي مدير المخابرات المركزية حصل على تقرير كامل عن هذه المقابلة السرية. كان الدكتور محمد يوسف المقاريف الذي عمل مراجعاً عاماً في أول عهد القذافي قد انشقَّ عنه وتزعم المعارضة الليبية في الخارج عام 1979، وكان المقاريف قد خرج إلى مصر ليفضح الفساد المالي للقذافي وأسرته من خلال عمله مراجعاً عاماً في ليبيا وأسّس الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا. في 5 ديسمبر 1983 رفع عميل سري تقريراً كاملاً عن محضر مقابلة نميري مع المقاريف لمدير وكالة المخابرات المركزية مع تعليق مختصر أن القذافي بعد هذا اللقاء سيواجه صعوبات في المستقبل القريب. كان مصدر التقرير عن لقاء نميري مسؤولاً رفيعَ المستوى في الحكومة السودانية، بما يعني أنه عميل رفيع المستوى حسب سجلات الوكالة وقد أرسل هذه المعلومات دون علم جعفر نميري. وعمل مدير الوكالة على حماية مصدره داخل الحكومة السودانية بحجب رمزه الحركي من بقية المؤسسات التي ستطلع على التقرير. وطلب من مدير العمليات أن يوافيه بملف معلومات مكتمل عن هذا العميل. كانت المعارضة الليبية في عقد الثمانينيات تتلقى مساعدات من ست دول. هي: السودان، مصر، المغرب، العراق، تونس والسعودية. كان رأي وزارة الخارجية الأمريكية هو مواصلة الضغط الخارجي، وتحريك عوامل الثورة في الداخل، مما يعني عدم التدخل المباشر من قبل واشنطون. قال المقاريف للرئيس نميري إنه لا يثق في العمل في المغرب لأن المخابرات الليبية نجحت في إحداث اختراقات في الرباط. في المقابل وعده الرئيس نميري بتقديم كل الدعم المطلوب لإسقاط القذافي من أسلحة وذخائر ودعم لوجستي وجوازات سفر. وقد وجه جهاز مخابراته بالإشراف على عمل المعارضة الليبية مؤكداً أنه سيكون متاحاً إذا حدثت أيُّ تطورات. كانت المخابرات الأمريكية متوجسة من التزامات جعفر نميري لأنها بمثابة إعلان حرب. لذا كانت خشية واشنطن الأكبر هي تدخل قذافي العسكري في السودان، وارتفعت هواجس مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) مع وجود 1500 طالب ليبي في أمريكا منهم 200 طالب من الموالين للقذافي. كانت المخابرات الأمريكية حسب وودورد أول من كشف للسودان هوية الطائرة التي ضربت الإذاعة السودانية. كشفت الصور أن طائرة من طراز TU22 هي التي نفذت العملية مما دعا وزير الخارجية جورج شولترز ليعلن على الملأ أن القذافي يتحمل مسؤولية ذلك. لكن ما لم يعلنه شولترز للصحافة أن الطيار الليبي الذي نفذ ضربة أم درمان تم القبض عليه وأعلن أن أوامره كانت ضرب القاهرة بعد أم درمان. كان للأمر التنفيذي الذي أصدره ريغان بعدم استخدام الاغتيالات السياسية أثرٌ في تقييد خيارات وكالة المخابرات المركزية. وعقد من خلق تحالف واسع ضد القذافي الكشف عن اتفاق سري بين القذافي واليونان للتعاون البحري. واليونان تعتبر عضواً فاعلاً في (الناتو). كانت الخارطة الملونة توضح أن القذافي يدعم 30 حركة معارضة في العالم منها السودان. عندما عرض مبعوث البيت الأبيض للرئيس المصري حسني مبارك عام 1983 خطة واشنطون لضرب القذافي بالطائرات كان رد مبارك أن مصر ستضرب القذافي في التوقيت الذي تريده. لذا قررت واشنطون أن تمضي وحدها بالتنسيق مع بعض الدول منها السودان لتنفيذ ضرب باب العزيزية. بعد تنفيذ عملية السفينة الإيطالية (اشيلي لارو) بواسطة منظمة التحرير الفلسطينية احتفظت مصر بالمنفذين الأربعة والتقطت المخابرات الأمريكية أحاديث حسني مبارك الهاتفية مع وزير خارجيته وهو يصدر أوامره بترحيل منفذي العملية للجزائر، فاعترضت طائرات عسكرية أمريكية مسار الطائرة المصرية وأجبرتها على النزول في اليونان. اتخذ الرئيس نميري قرارات وتدابير عدة لإسقاط القذافي بالتعاون مع الولاياتالمتحدة، وفشلت كل المحاولات حينها في إسقاطه. لكن مع ازدياد المقاومة الشعبية تدخل السودان لدعم المعارضة الليبية بمساعدة عدة دول أخرى. ما فشل فيه جعفر نميري نجح فيه الرئيس عمر البشير، والسودان يعاني عقوبات وعزلة وتضييق دولي. وذلك لسبب بسيط أن الظروف والملابسات تغيرت والسياسات والتحالفات الإقليمية تبدلت، وأن المقاومة الليبية الداخلية التي كانت أضعف في عهد جعفر نميري عادت وقويت لأن القذافي استخف قومه وأراد أن يجعل حكمه وراثة وملكاً عضوداً.