هل كان الدكتور منصور خالد مُحقاً وهو ينعي على بعض أهل السودان، خاصّةً أهل الإعلام منهم ضجيج احتفالهم بقصة الراعي السوداني في السعودية وهو يرفض في عِزّةٍ وكبرياءٍ أن يخون أمانته مهما أجزل المبطلون العطاء. ولم يلفت نظر الدكتور منصور خالد ذلك التزيّد في الاحتفاء الذي جاء داعماً للقناعة الراسخة في الوعي الشعبي بأننا أكثر أهل الأرض صوناً للأمانة ورعياً للفضائل ومكارم الأخلاق، بل جاء استدراكه مُقاوماً لهذا الحس الجمعي للاستثنائية الأخلاقية للشعب السوداني. وقال إنّه يُوجد في كل مطارات الدنيا قسمٌ خاصٌ للأشياء الضائعة يُسمى lost and found، وفي بلاد الفرنجة قلّما أن تجد مُضاعاً غير مردودٍ، لكن في منطقتنا الإقليميّة والجُغرافيّة، فإنّهم كما قالت روضة الحاج يسرقون الكحل من عين القصيدة. ولا أريد أن أخوض في جدل الهوية على نهج الباقر العفيف وعبد الله بولا وحسن موسى ممّا يُشير إلى أنّ هذه (الاستثنائية الأخلاقية) في العقل والحس الجمعي لأهل السودان جاءت استجابةً لنقص نفسي مُستقرٍ في العقل الباطن يسعى لتأكيد عُروبتنا عن طريق رعاية الفضائل والتفوُّق الأخلاقي. هذه النظرة الناقصة في قضية الهوية التي ظَلّ يحدث بها الباقر العفيف وهو يستعير عبارة الثائر والطبيب المارتنيكي فرانز فانون وجوهاً سوداء وثقافة بيضاء لا تخاطب جذور الأزمة، لأنّ دوافع التحليل والنظر سياسية وليست ثقافية أو معرفية. وطّأت هذا المدخل التقريري عن الأخلاق لأُعبِّر عن احتجاجي على ظاهرة أفجعتني في جيل كان يُسمِّيه الراحل البروفيسور علي المك جيل العادة السرية، إذ كان صديقي الذي ينتمي إلى السلك الدبلوماسي يقود سيارته في وسط الخرطوم في ظهيرة مُكتظة بالسّيّارات والسابلة، وسُرعان ما داهمته أزمة قلبية أحسّ بها وهو على مقود السّيّارة ينتظر إشارة المرور وانهارت قواه وبدأ يفقد الوعي تدريجياً، وهو ما نبّهه إليه الأطباء من قبل نظراً لحالته الصحية. فنظر إلى الشاب الذي يقود السّيّارة التي بجانبه والجميع ينتظر الإشارة الخضراء، فطلب منه المُساعدة وأن ينقله إلى مُستشفى شوامخ على بُعد كيلو متر واحد من المكان، وأن أمامه ما يُسمِّيه الأطباء بالساعة الذهبية لتلقي الإسعافات العاجلة وإلاّ سيفقد حياته. فنظر إليه الشاب ببلاهة وقال له بدون اكتراثٍ: (عمو أنا مُستعجل والله في ناس منتظرين معليش) ثُمّ ولّى مُسرعاً!!! كان يستجديه صاحبي ويقول له يا بني إنني أموت ساعدني. ولم يجد من ندائه سوى الخيبة والتجاهل!! قبل أن تتناوبه الغيبوبة مَدّ إصبعه وضغط الهاتف على آخر رقم دون أن يتبيّنه ولحُسن الحظ كانت زوجته وحدّثها عن مكانه وغاب عن الوعي. كان من حُسن حظ صاحبي أنّ زوجته تعمل في منطقة قريبة، فأدركته وتمّ إسعافه وخُضع لعمليةٍ سريعةٍ نجحت في إخراجه من مرحلة الخطر. هل يتناسب موقف هذا الفتى في الإزورار عن تقديم العون لرجل يُواجه خطر الموت ولا يمد له يد العون مع هذا التراث الأخلاقي الذي نتفاخر به بين الأمم؟!! قد يقول قائل، إنّ هذه حالةٌ معزولةٌ لا يُمكن الاستدلال بها على القيم والأخلاق في السُّودان. وقد يتقعّر أحدهم ويقول إنّ هذا التجريف الأخلاقي أتى من باب التمدُّن والبندرة وثقافة الحواضر التي تُعزِّز الفردانية والقيم المادية المُرتبطة بمصالح الفرد. أو يشتط ناشط ويحدثنا دُون هدي أو كتابٍ منيرٍ أن هذا التجريف الأخلاقي من فعل سياسة الإنقاذ. لا يُمكن الحديث عن قضايا الأخلاق والسياسة إلاّ بالعودة إلى كتاب الدكتور نوردنستام أستاذ كرسي الأخلاق بجامعة الخرطوم في عقد الستين الذي ترجمه الدكتور الراحل أحمد علي محمد المهدي أستاذ الفلسفة بجامعة الخرطوم، وكشفت الدراسة المورفولوجية لكتاب نوردنستام أن نسق الأخلاق التقليدية غيري التحديد أي أنّ مكانة الفرد الأخلاقية تعتمد بشكلٍ أساسي على رؤية واعتقاد الآخرين من الناس، كما أنّه خارجي الاتجاه outward oriented.. حسب النماذج التي جمعها الدكتور نوردنسيتان من المُجتمع السوداني، فإنّه تغلب على نسق الأخلاق للفرد السوداني صفات الكرم والشهامة والكرامة ويأتي على رأس هذه الفضائل والأخلاق صفة (الشجاعة) التي تعطي الشخص السوداني تفوقاً أخلاقياً عالياً على أقرانه. ولكنها للأسف حسب التراث الشفاهي السوداني فهي شجاعةٌ حسيةٌ ترتبط بالثبات والجَلد وعدم الخَوْف والتراجع واحتمال الألم. وانسرب في العقل الباطن نماذج لهذه الشجاعة الحسية والمادية الطابع منها.