تحمل قضية تصفية الكاتب والصحافي السعودي، جمال خاشقجي، في إسطنبول الأبعاد كافة الخاصة بالجريمة ذات الطابع البوليسي من غموض، وتصلح مادة لرواية، على غرار روايات الكاتبة الشهيرة آغاتا كريستي التي يشكّل التحرّي عقدتها ومفتاحها، وربّما تصبح الحكاية كذلك طالما أنّها بدأت معقّدة ومحاطة بالألغاز من الألف إلى الياء. ورغم تسرّب كمّ كبير من المعلومات حولها إلى وسائل الاعلام، فإنّ التحقيق الفعلي في مكان الجريمة لم يبدأ بعد. إلا أنّ هذا لم يمنع أنّ السلطات التركية باتت تمتلك قرائن وأدلة على وقوع الجريمة داخل مبنى القنصلية، تدين السعودية وتحملها المسؤولية بما لا يدع أي مجال للشك، وقد وضعت ملفاً كاملاً تحت تصرّف جهات دولية. وبعد مرور نحو أسبوعين على اختفاء خاشقجي في القنصلية السعودية في منطقة بشكتاش، لا يزال الأمن التركي يعمل على ربط خيوط القضية ببعضها، كي يخرج بإعلان نهائي يحدّد فيه الوقائع ويصدر لائحة الاتهام. وحسب مصدر خاص قريب من التحقيق، وعلى اطلاع على القضية عن كثب، "لا يترك الأمن شاردة أو واردة من دون أخذها في عين الاعتبار". ويقول المصدر إنّ "الأجهزة التركية مستنفرة منذ مساء الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول من أجل جمع المعطيات وتحليلها للوصول إلى الصورة النهائية للجريمة" التي هزّت الدولة التركية، وتحوّلت بسرعة شديدة إلى قضية دولية تشغل الأوساط الرسمية وأجهزة الأمن والصحف والرأي العام. وفي محاولة لإعادة تركيب القضية منذ البداية، يقول المصدر إنّ "الأمن التركي تبلّغ عن طريق رئيس "بيت الإعلاميين العرب" في إسطنبول، الصحافي التركي توران قشلاقجي، في حوالي الساعة السادسة، أنّ خاشقجي دخل القنصلية السعودية حوالي الساعة الواحدة والربع ولم يخرج، واتخذت الجهات المعنية في مدينة إسطنبول إجراءات فورية، وكانت الخطوة الأولى التي قام بها الأمن هي التعميم على الحدود والمطارات، وإرسال تعزيزات أمنية لتطويق القنصلية وبيت القنصل، وبالفعل جرى تفتيش للطائرات السعودية التي كانت على وشك المغادرة". بدوره، يكشف قشلاقجي ل"العربي الجديد" أنّ خطيبة خاشقجي التركية، خديجة جنكيز، اتصلت به قبل السادسة بقليل لتخبره النبأ، فقام بإعلام الجهات الرسمية، وتوجه إلى القنصلية التي باتت مطوقة بقوات الأمن التركية. ويحدد أنّ خاشقجي زار القنصلية في ذلك اليوم من أجل الحصول على أوراق خاصة تتعلّق بزواجه من خطيبته خديجة، ويقول إنّ الكاتب السعودي زار القنصلية يوم الجمعة في 28 سبتمبر/ أيلول الماضي، وجرى استقباله بترحاب وود، وطلبوا منه أن يعود في الأسبوع القادم، وهنا سافر إلى لندن من أجل المشاركة في ندوة وعاد بسرعة، أي في يوم الاثنين، المصادف الأوّل من أكتوبر/ تشرين الأول. وفي اليوم المشؤوم تلقّى اتصالاً من شخص يعمل في القنصلية، اسمه سلطان، طلب منه أن يحضر لأخذ الأوراق. وبالفعل توجه خاشقجي إلى هناك وعلى عكس المرة الأولى لم يسمحوا لخطيبته بالدخول، فبقيت تنتظر في الخارج وترك لديها هواتفه، وظلّت تنتظره حتى يئست من الأمر، فتوجهت لسؤال الحرس عنه فأخبروها أنّ الدوام انتهى ولم يعد هناك أحد، فيما خرج من بين الموظفين السعوديين من قال لها إنّ خاشقجي غادر القنصلية منذ زمن طويل وإنّ جميع من في القنصلية خرجوا. وهنا اتصلت بقشلاقجي لتخبره بالأمر، فتصرّف مباشرة ونقل الأمر إلى السلطات الرسمية، والتحق بها إلى مبنى القنصلية ومكثوا ينتظرون ساعات عدة. ويقول قشلاقجي "ذهبت إلى هناك والتحقت بخديجة التي كانت قد اتصلت بصديقة لها، وبقينا ننتظر على الباب الخارجي لأننا كنا نعتقد أنّ خاشقجي محتجز داخل القنصلية، وأنه سوف يخرج بين لحظة وأخرى، ولم يخطر في بالنا أنه يمكن أن يتعرّض للقتل". يضيف قشلاقجي "رابطنا على باب القنصلية أربعة أيام وسط مشاعر متضاربة، وتقليب السيناريوهات المحتملة كافة، وكان الهدف من الحشد الإعلامي تشكيل قوّة ضغط على السلطات السعودية لتكشف عن مصير خاشقجي، ولكنها أصرّت على الرواية التي صدرت عن القنصلية في أنّ خاشقجي خرج بعد وقت قصير، وأنّ كاميرات القنصلية لم تسجّل خروجه لأنها ليست في وضعية التسجيل، من دون أن تقدّم أي إثبات على ذلك. وكان الإثبات الوحيد الذي يمكن أن يشكل دليلاً دامغاً هو صور كاميرات السفارة، ولكن تحجّج القنصلية بأنّ الكاميرات لم تكن تعمل في ذلك اليوم كان أول خيط في مسار الشكوك التي كانت تتعاظم في كل يوم، حتى جاءت مقابلة ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، مع وكالة بلومبيرغ يوم الجمعة لتنفي أي مسؤولية للسعودية، مبدياً الاستعداد لفتح القنصلية أمام التفتيش التركي الرسمي. وكان بن سلمان بذلك يردّ على استدعاء السفير السعودي من قبل وزارة الخارجية في أنقرة". ويكشف قشلاقجي أنّ "السلطات التركية طلبت من الشركة التي ركبت الكاميرات تفاصيل حول آلية عملها، وحصلت على معلومات وافية بأنّ الكاميرات كانت تعمل، وهي مضمونة لستّ سنوات أخرى، ولم يسبق للقنصلية أن أبلغت الشركة بأيّ عطل أو عائق يمنعها من أداء وظيفتها، وهي التسجيل". وتفيد مصادر تركية رفيعة المستوى بأنّ الكاميرات شكّلت مصدراً رئيسياً للمعلومات التي باتت بحوزة السلطات التركية، وهي عبارة عن تسجيل لعملية القتل والنقاشات التي تمّت بين خاشقجي وفريق القتل، وبين أعضاء الفريق أنفسهم حول ما يجب فعله بعد أن حصلت الوفاة. وحسب مصدر تركي، فإنّ الدليل الذي تملكه تركيا يتمثّل في هذا التسجيل، الذي يشكل وثيقة لا يمكن إنكارها. وردّت السلطات التركية بعدها بأن قدّمت يوم السبت في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول، للمرة الأولى، معلومات إلى وكالة "رويترز" تؤكّد مقتل خاشقجي. وقال مصدران تركيان، في ذلك اليوم، إنّ "السلطات التركية تعتقد أنّ الصحافي السعودي البارز، جمال خاشقجي، قُتل داخل القنصلية". ونقلت "رويترز" عن أحد المصدرين، وهو مسؤول تركي، قوله إنّ "التقييم الأولي للشرطة التركية هو أن خاشقجي قتل في القنصلية. نعتقد أنّ القتل متعمّد، وأن الجثمان نُقل إلى خارج القنصلية". وفي وقت لاحق، نقلت الوكالة نفسها عن مصدر مسؤول في القنصلية العامة للسعودية في إسطنبول، نفيه أن يكون خاشقجي قد قُتل في القنصلية. وكذلك نقلت وكالة "الأناضول" عن مصادر أمنية تركية، في اليوم نفسه، تأكيدها عدم خروج خاشقجي من القنصلية في إسطنبول إثر دخوله إليها لإنهاء معاملة، مضيفة أنّ "15 سعودياً، بينهم مسؤولون، وصلوا إلى إسطنبول بطائرتين ودخلوا القنصلية بالتزامن مع وجود خاشقجي، قبل العودة إلى البلدان التي قدموا منها". ويؤكد قشلاقجي أنّه اطلع على التفاصيل التي تمّ تقديمها لبعض وسائل الإعلام المحلية والدولية التي تجمّعت لدى السلطات التركية، وهي تؤكد بما لا يدع أيّ مجال للشكّ بأنّه تمّت تصفيه خاشقجي داخل القنصلية"، في الوقت الذي كانت فيه السلطات السعودية تنفي وتسرّب روايات مضلّلة وضعيفة، بعضها يتحدّث عن وجود خاشقجي على قيد الحياة في تركيا، وبعضها قال إنه في قطر. وفي التفاصيل، فإنّ عملية القتل حصلت في القنصلية، وتم نقل الجثة بعد ذلك إلى بيت القنصل، وبقي الفريق المكلّف بالمهمة ساعات عدة في بيت الأخير قبل أن يغادر إلى المطار من دون أن يعرج على الفندق الذي حجز فيه أربع ليالي. ويشدّد قشلاقجي على أنّ الوثائق التي بحوزة الأمن التركي تؤكّد أنّ عملية القتل حصلت في غضون 20 دقيقة، وبعدها دارت النقاشات بين أعضاء الفريق عما يجب فعله بالجثة، التي استقرّ الرأي على نقلها من مبنى القنصلية إلى منزل القنصل. وهنا يبدأ اللغز وينقطع الخيط، وتنصبّ الاهتمامات منذ ذلك الحين على البحث عن الجثة، فيما يبرز احتمالان في هذا الإطار. الأول، أنه تمّ دفن الجثّة في حديقة منزل القنصل، وربما يفسّر هذا سبب رفض السعودية السماح بتفتيش بيت الأخير، والسماح بتفتيش القنصلية، فيما الاحتمال الثاني أنه تمّ إخراجها في سيارة الفان التي خرجت مع السيارات التي أقلّت الوفد الذي نفّذ العملية إلى المطار، والتي خرجت عن الموكب واتجهت إلى القسم الآسيوي من إسطنبول واختفى أثرها حتى اليوم. وقد تكون سيارة الفان تحتوي على الجثة، وقد تكون استعملت من باب التمويه، وتمّ إخفاؤها في مكان ما، بغرض إبعاد الشبهات عن حديقة بيت القنصل. ويمكن تلخيص آخر المعطيات بأنّ ما يمتلكه الأمن التركي حتى الآن هو شريط مسجّل لعملية القتل، وما يريده من التعاون في التحقيق مع السعوديين هو الجثة. لا تريد تركيا حتى يوم الأحد 14 أكتوبر/ تشرين الأول الإعلان من دون الجثة، رغم أنّ مصادر دبلوماسية قالت ل"العربي الجديد" إنّ هناك اتجاهاً للإعلان يوم الأحد. والثابت أنّ تركيا تمدّ حبل الانتظار عسى أن تقبل السعودية التعاون، وإلا فإنّها سوف تعلن ما لديها، ما يشكّل ضربة للجنة المشتركة التي تشكّلت يوم الجمعة الماضي بعد زيارة وفد سعودي رسمي رفيع المستوى إلى إسطنبول. وبحسب تقديرات مصدر إعلامي تركي، فإنّ السلطات التركية باتت مرتاحة حين صار الشريط المسجّل بيدها، وهي تبحث عن إخراج مشترك بالتعاون مع السعودية، ولكن الأخيرة تماطل لأنّ حجم التورّط كبير، ومهما حاول الطرفان من تسويات، فإنّ الرياض سوف تدفع الثمن غالياً على الصعيدين المحلي والدولي. ويقول المصدر إنّ "السعودية في أبسط الأحوال لا يمكن لها أن ترفض تسليم المنفذين للعدالة التركية للمحاكمة حسب القانون الدولي". ويسود الاعتقاد أن الساعات المقبلة ستكون حاسمة جداً، فهناك لحظة ترقّب وانتظار لإعلان تفاصيل الجريمة التي ستكون مدويّة.