د. أنس ابن عوف عباس اختصاصي الطب النفسي يعتقد كثير من الناس أن الرقية الشرعية خاصة بأنواع من الأمراض دون غيرها، كأمراض السحر والعين والمس والأمراض النفسية، فيقصدون إلى التداوي بالرقية من هذه الأنواع فقط، بينما لا يفعلون ذلك في الأمراض العضوية ولا يتصور كثير منهم إمكانية الشفاء بالرقية منها. وهذا المفهوم ليس صحيحاً، فلم يرد في النصوص تقييد الرقية بالسحر والعين ونحوهما فقط، بل ليست هذه الأمراض غير العضوية إن صحت التسمية أولى بالرقية من الأمراض العضوية، وذلك لأمور منها: - أن الرقية من قبيل الدعاء وهو الطلب والرجاء من الله تعالى أن يشفي المريض، وهذا ليس خاصاً بمرض دون مرض. - أن الرقية استشفاء بالقرآن الكريم وتبرُّك بآيات الله تعالى، وهذا تعبّد لله لا يختص به مرض دون مرض، كما قال الإمام ابن القيم: « فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية». - أن الأدلة الصحيحة التي دلت على مشروعية الرقية نصّت على بعض الأمراض العضوية كما نصت على غيرها، ومن ذلك ما يلي: - الرقية من لدغة العقرب ونحوها من ذوات السم، كما روى البخاري ومسلم في قصة اللديغ سيد الحي الذي رقاه الصحابة بالفاتحة وأقرّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكقوله صلى الله عليه وسلم: « لا رقية إلا من عين أو حمة»رواه أحمد والترمذي وأبو داود. قال النووي: الحُمَة: بضم الحاء المهملة وتخفيف الميم هي: سم العقرب وشبهها، وقيل: فوعة السم وهي حدته وحرارته، والمراد أو ذي حمة كالعقرب وشبهها، أي لا رقية إلا من لدغ ذي حمة، حتى قال: ومعنى الحديث لا رقية أشفى وأولى من رقية العين وذي الحمة. ويدل للرقية من لدغة العقرب أيضاً ما رواه جابر بن عبد الله قال: لدغت رجلاً منا عقرب ونحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: يا رسول الله أرقي؟ قال:« من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل»رواه مسلم. فهذه الأحاديث تدل على أن في الرقية شفاء من لدغة العقرب ونحوها. - الرقية من القرحة والجرح: وقد دلّ على مشروعية ذلك ما روته عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى الإنسان الشيء منه أو كانت به قُرحة أو جُرح قال النبي صلى الله عليه وسلم بإصبعه هكذا، ووضع سفيان سبابته بالأرض ثم رفعها:«باسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا ليشفى به سقيمنا بإذن ربنا»رواه البخاري ومسلم. - الرقية من النملة: وهي كما قال النووي: النملة جروح تخرج في الجنب. ودليل ذلك ما في صحيح مسلم عن أنس قال: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية من العين والحمة والنملة. - الرقية من وجع الأذن: ويدل له ما ثبت عن أنس بن مالك قال: أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل بيت من الأنصار أن يرقوا من الحمة والأذن،رواه البخاري. قال ابن حجر: وأما رقية الأذن فقال ابن بطال: المراد وجع الأذن أي رخص في رقية الأذن إذا كان بها وجع. - الرقية من الوجع والألم: يدل له حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعاً يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل باسم الله ثلاثاً وقل سبع مرات أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر»رواه مسلم. فهذه النصوص تدل على عموم الرقية وأنها لا تختص بالمس والعين ونحوهما وإنما تعم الأمراض العضوية كذلك. بل قد يقال إن كثيراً من النصوص التي يستدل بها على الرقية يُفهم أنها كانت في أمراض عضوية، وإن لم يتم التصريح بذلك في نص الحديث، ومثال ذلك ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى منا إنسان مسحه بيمينه ثم قال: «أذهب الباس رب الناس، واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً» رواه البخاري ومسلم. وكذلك ما ثبت في الصحيح عن عائشةَ أيضاً أنها قالت كان إذا اشْتَكَى رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رقاه جبريل: «بسم الله يبريك ومن كل داء يشفيك ومن شر حاسد إذا حسد وشر كل ذي عين»رواه مسلم. ففي هذا الحديث وغيره الذي يفهم من قول عائشة: «كان إذا اشتكى» أنه من قبيل الأوجاع والآلام العضوية لا النفسية، فهي تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، ولهذا بوّب له البخاري ب« باب مسح الراقي الوجع بيده اليمنى»، والله أعلم. وليس معنى هذا أن يترك التداوي من هذه الأمراض بما أباح الله تعالى من الأدوية النافعة التي يصفها الأطباء، بل ينبغي الجمع بين الرقية وتعاطي الدواء، والمقصود بيانه أن هذا لا يختص بمرض دون آخر، وقصرُ الرقية على ما يكون سببه المس والسحر أو المرض النفسي ونحوه لا دليل عليه ولا أصل له بل هو مخالف لما تقدم من الأدلة وغيرها، والله أعلم.