وأعجب منه أن تدري! بعد سقوط عهد الرئيس السابق جعفر نميري، كتبت سلسلة مقالات تحت عنوان «مرض الطفولة الوزاري» Pediatric Ministritis على وزن «مرض الطفولة اليساري» احد مقالات المفكر روجيه جارودي الذي انضم للحزب الشيوعي الفرنسي عام 1933م وكان من أبرز مفكريه إلا أنه خرج عنه عام 1972 وألف كتابه «البديل» الذي فند فيه النظرية الشيوعية ثم أعلن إسلامه عام 1982م. المقالات كانت تصور حالة بعض المثقفين الذين كان يستهويهم الاستيزار في زمن الرئيس نميري فكانوا يظهرون نشاطاً وحماساً مبالغاً فيه وما إن يقول الرئيس نميري مقولة حتى يتبارون في شرح معانيها ويؤطرون لها ويستخرجون لها أرضية فلسفية ومن بينها كمثال «المايوية النميرية» التي سخر منها الرئيس نميري نفسه في أحد لقاءاته الشهرية. على أن الذي كان يشغل بال هؤلاء ويثير الرعب في نفوسهم هو «ما بعد الاستيزار» أي بعد أن يعيين الشخص وزيراً أمر في غاية من الأهمية. كيف يبقى الشخص في منصبه ولا يُعزل عنه.. فالرئيس نميري اعتاد أن يعيِّن وزراءه بالتلفون ثم يقصيهم في إذاعة الساعة الثالثة ظهراً. وكان هذا يعتبر كارثة الليالي التي تجزع لها زوجة الوزير لأنها لا تعرف أين تودي وجهها من الشامتين والشامتات. فكانت الرحال تشد إلى «مايرنو» حيث مجموعة من «المثبتين مثل صباع أمير» الذين يعملون الأعمال «جمع عمل» لكي لا يغادر الوزير منصبه تحت أية مؤامرات من أي نوع وكنت أطلق عليهم «رجال الأعمال» من قبل أن يظهر رجال أعمال من نوع آخر. وكنت أستهل مقالاتي بأبيات للشاعر العراقي الجواهري تقول: سقطت فلا تأبه لما قد فقدته فما أنت بين الساقطين بأول فكم من وزير كان قبلك قد هوى كجلمود صخر حطه السيل من عل ولكن ما مناسبة هذا الحديث الآن؟ مناسبته أنني لاحظت أن بعض الذين يشملهم التعديل كانوا يستميتون في الدفاع عن الحكومة ويتبنون أطروحاتها ولكن عندما يسقطون من مناصبهم الوزارية وكنا نقابلهم في مناسبات العزاء أو الأفراح كانوا يستميتون أيضاً وبنفس القوة في نقد الحكومة وتوجيه الاتهامات لهذا وذاك وبالطبع فهم أدرى الناس ببواطن الفساد.. - ويا أخ كلمناهم مية مرة وما سمعوا. وغايتو الحمد لله الواحد زح بعيد منهم «لاحظ زح مش زحوه» وأنا متأكد إنو الأمور كدا ما بتمشي... الله يستر. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن لماذا كانت الأمور ماشة كدا إلى عشية إقالته من الوزارة أو المنصب الكبير الذي كان يحتله. هناك التزام أخلاقي يبدو أنه غائب عن سياسيينا الذين يتقلدون تلك المناصب الكبيرة ذات الفوائد الضخمة. وهو ألا تقدح في نظام أنت كنت جزءًًا منه وأصبت من رزق الدنيا منه الكثير وشيدت من ظهره العمارات والخيرات ما ظهر منها وما بطن ولو كنت معارضاً لبعض سياساته وظهرت اختلافاتك معه كان ذلك سيشفع لك لأنك أوضحت معارضتك لتلك السياسات عياناً بياناً لكنك إلى ليلة البارحة كنت تدخل مع المعارضين في أشرس المعارك وتصفهم بأشنع الصفات ولكنك اليوم ركّبت وجهاً وقناعاً غير خائل عليك. وإنك لتجدن المرء من هؤلاء يمسي حكومياً ثم يصبح معارضاً. هذه آفة السودان الكبرى في بعض بنيه الذين يرفعون شعار: يا فيها .... يا بيت أبوي. آخر الكلام: دل على وعيك البيئي.. لا تقطع شجرة ولا تقبل ولا تشتر ولا تهد هدية مصنوعة من جلد النمر أو التمساح أو الورل أو الأصلة أو سن الفيل وليكن شعارك الحياة لنا ولسوانا. ولكي تحافظ على تلك الحياة الغالية لا تتكلم في الموبايل وأنت تقود السيارة أوتعبر الشارع. وأغلقه أو اجعله صامتاً وأنت في المسجد.