كان رجالات الحكم الثنائي يقيمون المدارس بقدر حاجة دواوين الدولة اليها وواضح انهم كانوا ضد انتشار الوعي كيلا تتفتح اذهان شباب السودان ويطالبون بالجلاء والتحرر والأجر المتساوي والديمقراطية والكلام الجميل دا.. وصل الإنجليز حدًا منعوا معه دخول أي مطبوعات مصرية إلى السودان لأنها ترفع من وعي مثقفي السودان وتبني جسرًا حضاريًا متينًا بين شمال الوادي وجنوبه وهذا ما لا تُحمد عقباه .في عام 1923 بدأت طلائع الطلاب السودانيين الهروب إلى مصر عبر الصحراء أو بالسكة الحديد أو البواخر متخفين جذعًا من الإنجليز، كما كانوا يسافرون إلى بيروت وكل مدينة تفوح منها رائحة العلم .. هذه بعض تضحيات الرعيل الأول من أبناء هذا البلد الذين أبحروا بسفينة الحرية فوق الكثير من الجنادل مثل الإعدامات والمعتقلات والتشريد حتى أجلوا الإنجليز وسلموكم سودانًا كامل الدسم وخاليًا من الضغائن.. كانت هذه مقدمة كي أتحدث عن أديب سوداني لم ينل حظه من الدراسة والتكريم أُسوة برصفائه في العالم العربي.. هنا أشكر الدكتورة فاطمة القاسم شداد التي أعدّت مؤلفًا ضخمًا عن هذا الشاعر والناقد والأستاذ محمد محمد علي والذي كان أبرز تلاميذه العلامة عون الشريف قاسم عليهم جميعا رحمة الله .. وُلد الشاعر محمد محمد علي بحلفاية الملوك عام 1933 اي عقب ميلاد «المهاتما» وردي بسنة واحدة، وقد اشتهرت فترة الثلاثينيات هذه بميلاد أفذاذ أصبحوا «أسماء في حياتنا» في الأدب والسياسة والفلسفة والعسكرية. عمل الشاعر أستاذًا بالثانويات العليا وضجر من مهنة التدريس فقال ساخرًا: يارب ارحمنا من التدريس * ورزقه المصرّد الخسيس في بؤسنا وقدرنا المنحوس * نجود بالعزيز والنفيس من الخميس للخميس للخميس * تاكلنا الأعباء أكل السوس صدق هذا الرجل في وصف هذه المهنة التي تضعك في مأزق اقتصادي حرج فلا أنت حيّ فيرجى ولا ميت فيُنعى شفت الوجع دا!! التدريس في الأساس والعالي والجامعة كله واحد والمرتب واحد والمصير معروف، فإن قلت لأحد إن ابني الذي تخرج في 2009 يتقاضى مرتبًا ضعف الذي آخذ، قال لك :انتو شفقانين وجيتو بدري شويه!!! كان محمد محمد علي ذا كرامة ونفس رفيعة ومتشائمًا أحيانًا حيث قال أنا كبير بالرغم من هواني على الناس وصغير بالرغم من عظمتي عند البعض... وقال أيضًا يصف قلبه: له عزم جبار ورقة راهب * تقلبه فوق الجحيم العواطف إذا ما طغى يومًا أثار بمهجتي * عواطف في آثارهن عواصف به الفجر وضّاح به الليل دامس * به النبع سلسال به السيل جارف أقمت به للحب أقدس معبد * تضيء به الدنيا إذا طاف طائف كمعظم المثقفين في ذلك الزمان عانى شاعرنا الوحدة والعزلة بل والكآبة وانقطاع الرجاء فأنشد: دهتني الخطوب السود والعمر ناضر * فأصبحت حيًا يلبس العيش فانيا إذا غرّد الصداح في ميعة الضحي * توهمت أن البوم ينعق ناعيا نهاري نهار الطير داهم وكره * عقابٌ يسوق الموت أحمر قانيا وليلي جبار إذا رُمت وصفه * تعثر دون الوصف خوفًا لسانيا يا سلام على هذا الرجل الفصيح، كلنا يا شيخ محمد نكابد هذه اللأواء لكن تنقصنا القدرة على التعبير... ساءت حالة الشاعر وتدهورت حتى انتابه شيء من الشك مثل الذي أصاب التجاني يوسف بشير والناصر قريب الله وأبا القاسم الشابي وعبد الله القصيمي وبرنارد شو وأبا العلاء المعري، إلا أنهم كلهم رجعوا إلى فردوس الإيمان فارتاحت نفوسهم بعد سفر مرهق في هذا الطريق الوعر.. يا أيها الناس نحن نلوم هذا الجيل بأنه متخبط وجاهل ولا مبالي ويجهل جغرافية وتاريخ وتراث السودان لكننا لم نسأل أنفسنا من هو المخطئ؟ نحن الذين لم نوجههم ولم نقدم لهم مناهج مثمرة وأرجوكم راجعوا المناهج من الأساس حتى الجامعة فإن وجدتم فيها ذكرًا لمحمد أحمد محجوب أو إسماعيل الأزهري أو الحضارة السودانية بكل حقبها أوالجاغريو أو حميدة أبوعشر، فعلقوني على سارية في شارع النيل!! قال لي أحد الأساتذة بجامعة الخرطوم إنه كان يجري معاينة لإحدى طالبات السنة الأولى يسالها عن اقتصاد السودان وخزان جبل أولياء وثورة ود حبوبة وعندما لم تجب أي إجابة صحيحة قال لها: بتعرفي النعام آدم؟ أطرقت برهة ثم رفعت رأسها في اعتزاز وقالت: مش حتة كدا قبل الكلاكلة بشوية؟؟