الضعف السياسي لنظام الحكم ً يقود للضعف الاقتصادي والاجتماعي، حين تختفي القيم التي كانت تربط ذلك المجتمع. كما أن ضعف السياسة يقود للطغيان الذي يجر وراءه الفساد الأمر الذي ينعكس سلباً على الاقتصاد وقوته وعلى المجتمع وتماسكه.. بدأ النظام باضعاف معارضيه حتى زال تأثيرهم على الشارع السياسي، وحسب أن في هذا قوة ولكنها قوة مستمدة من ضعف الآخرين وليست قوة حقيقية، لم يعد هناك صراع سياسي يذكر فالسياسيون ركنوا لهذا الضعف، فإما أنهم رضوا بما يقدمه لهم نظام الحكم من هبات، وإما حوتهم المعتقلات أو طابت لهم الإقامة خارج البلاد. لم يعد هناك صراع يذكر ولكن هذا مستحيل في عالم السياسة، حيث لا يتوقف الصراع، وحتى في الحياة العامة يستحيل توقف الصراع، فالصراع الذي اختفى خارج النظام انتقل إلى داخل النظام فالحياة لا تستمر دون صراع، فكان الصراع على أُشده داخل النظام، وقد ظهر جلياً في مذكرة العشرة والتي أحدثت تحولاً دراماتيكياً داخل النظام نفسه!! وحين تضعف السياسة يسود مفهوم الحرب؛ فالحرب هي النتيجة المؤكدة لذلك الضعف، فالذي يتم اضعافه سياسياً لا يجد بديلاً إلا البندقية وهذا ما يفسر كثرة حالات التمرد في الغرب والشرق وحتى في الشمال المسالم!! وضعف السياسة يجعل من النظام الحاكم فرية للضغوط الأجنبية، والقبول بالحلول الزئبقية كاتفاقية نيفاشا التي وصفوها باتفاقية السلام الشامل، واحتفل بها العالم، وقال عنها الكثيرون إن من أكبر حسناتها أنها أوقفت الحرب، وفي حقيقة الأمر أن الذي أوقف الحرب هو سحب الجيش السوداني من أراضي الجنوب، وسحب الجيش يعني سحب السيادة السودانية على أرض الجنوب ولو تم هذا الإجراء بدون نيفاشا لتوقفت الحرب كذلك!! كما أن ضعف السياسة غيَّب على النظام أن الجنوب منفصل لا محالة وأخطر خطوات هذا الانفصال وأهمها كان سحب الجيش من الجنوب وعضّد ذلك بتقرير المصير، لم يعمل النظام على فرضية الانفصال فقد كانت أسيراً لمفهوم مبهم اسماه بالوحدة الجاذبة، والتي لم يعمل لتحقيقها أيضاً. كما أن ضعف السياسة غيَّب مفهوماً قانونياً منصوص عليه في القانون الدولي وهو أن حق تقرير المصير يعطي للأمم ذات الثقافة الواحدة والأهداف المشتركة وليس لمجموعة قبائل متنافرة ومتناحرة لا تجمعها ثقافة ولا لغة.دولة جنوب السودان تبحث عن هوية لتفادي تلك الفقرة في القانون الدولي ولن تجد هذه الهوية إلا في السودان الذي انفصلت عنه؛ فالنظام حين يحاور الحركة الشعبية إنما في الحقيقة يحاور قبيلة الدينكا، فالنظام الاجتماعي في الجنوب نظام قبلي حتى النخاع، وهذا بالطبع يثير القبائل الأخرى، والهوية التي يفاوض بها الجنوب الآن لا ترضي إلا قبيلة الدينكا، لذلك يجب البحث عن هوية جامعة تغطي على النعرة القبلية خارجياً، حتى يقتنع المجتمع الدولي بأن الجنوب أمة تستحق تقرير المصير والاستقلال بذاتها ولو كانت هذه الهوية هي الجنسية السودانية!.. وهذا في حد ذاته تناقض غريب إذ كيف تحمل دولتان مستقلتان ذات الهوية.. فالهوية السودانية التي تجعل من متناقضات الجنوب أمة، كانت سبباً أساسياً للانفصال حيث اعتبر أهل الجنوب أنفسهم مواطنين من الدرجة الثانية تحت ذات الهوية التي يطالبون بها الآن!! وحتى تعالج حكومة جنوب السودان هذه المعضلة القانونية نجدها تبحث حثيثاً عن الجنسية السودانية التي تجعل من دول جنوب السودان شكلياً أمة تحت هوية سودانية!! وحسب المعطيات هذه نجد أن الحريات الأربع ما هي إلا مطية للوصول إلى الجنسية السودانية وهو ما لم تشر إليه الاتفاقية من قريب أو بعيد؛ فالجنسية السودانية توحد ولو ظاهرياً القبائل الجنوبية المتنافرة والمتناحرة في هوية ولو شكلياً.. لونظرنا إلى التركيبة القبليةلجنوب السودان وعلى سبيل المثال لا الحصر نجد أن قبيلة النوير يبلغ تعدادها في الجنوب حوالى أربعمائة ألف، أما في إثيوبيا فيبلغ تعدادها المليون ونصف المليون، الأنواك تعدادهم في جنوب السودان لا يتعدى الثلاثين ألفًا بكثير بينما في إثيوبيا يبلغ تعدادها المليون قبيلة الاشولي «جيش الرب» تعدادها في جنوب السودان محدوداً جداً بينما في يوغندا يفوق تعدادها المليون وقس على ذلك الزاندي والباريا والمنداري وغيرها تعداد هذه القبائل في الدول المجاورة أضعاف تعدادها في جنوب السودان. وما لم يفطن إليه أحد فقد قام البريطانيون بإنشاء عموديات كل هذه القبائل أو معظمها في جنوب السودان وهذا أمر ليس بالصدفة إنما كان تخطيطاً بعيد المدى، فإذا بحثنا عن أكبر الحاقدين على السودان لما وجدنا إلا بريطانيا والتي كان السودان سبباً في أفول شمسها التي لا تغيب، من جملة «خمسة وثلاثين جنرالاً» أخضعوا العالم لبريطانيا لقى ثلاثة وثلاثون منهم حتفه في أرض السودان، وأعظمهم كان الجنرال قوردون، فمنذ العام ستين من القرن الماضي يعرض بصفة منتظمة فيلم الخرطوم، والآن أي طفل بريطاني يفهم السودان بالصورة البشعة التي صورها الفيلم للشعب السوداني، الذي صور السودانيين الأشرار كيف قضوا على قوردون ذلك الحمل الوديع، وكأنما عبر أهل السودان البحار إلى لندن وفي ضاحية من ضواحيها كان قوردون ينام قرير العين وجاء السودانيون وذبحوه في عقر داره. وأرسلت بريطانيا معتوهاً يدعى كتشنر استباح السودان، وكرم بلقب لورد على تلك المذابح وعين وزيراً للدفاع، وتقول الروايات إن الدولة تضايقت من تصرفاته الجنونية فأرسلته إبان الحرب العالمية الأولى لروسيا، ويقال أيضاً إن المخابرات الألمانية تلقت الخبر فاغرقت سفينته وأصبح اللورد غذاءً للأسماك!! يعتقد البعض أن ما تم في أديس إنما هو اتفاقية نيفاشا جديدة، كلا ليس الأمر هكذا، فما يدور هو مواصلة لنيفاشا وتطبيق لبنودها السرية التي ستظل تنفجر علينا كالألغام في اللحظة المناسبة، والبعض يطالب باستقالة الوفد المفاوض، كأنما هو من يقرر وليس مؤسسة الرئاسة، فأي مفاوض آخر يدخل في هذا الأمر لن يجد مرجعية يعتمد عليها سوى مرجعية نيفاشا فالآن يبدأ التنفيذ الفعلي لنيفاشا رغم توهم الجميع بأنها ذهبت إلى غير رجعة.. يبرر البعض بأن اتفاقية الحريات الأربع، سترفع الحصار الاقتصادي والسياسي في السودان وهذا بعض من أحلام اليقظة، فاليوم يصاغ قانون محاسبة السودان والذي سيدخل في الدستور الأمريكي والغاؤه يستغرق على أقل تقدير ربع قرن من الزمان، وعلى الدولة عدم النظر إلى هذا الأمر ببلاهة حيث إن هذا القانون يتعارض مع الدستور الأمريكي وعليها استشارة قانونيين أمريكان في هذا الأمر ليرفعوا قضية دستورية في أمريكا للطعن في هذا القانون إن مصير السودان ليس في هايدلبرج حيث صممت نيفاشا ولا في واشنطن حين أجرى عليها CSIS السيناريو الأخير، إنما في يد أهل السودان أنفسهم، فهم من يقررون مصيرهم لا أمريكا أو غيرها..!! وهذه أسوأ نتائج ضعف السياسة أن يدفع الشعب ثمن أخطاء نظام حكمه ولا حول ولا قوة إلا بالله!!