معروف أن أي مفاوضات بين بلدين متحاربين تتم وفق ترتيبات محددة تقتضي التفاهم حول ترتيبات وتدابير وقف إطلاق النار وكيفية إسكات صوت البنادق، ثم تأتي من بعد ذلك إبرام الاتفاقيات التي تؤسس لمرحلة جديدة تعزز الأمن والسلام والاستقرار وما يتبع ذلك من إجراءات على الأرض وفي مسارح العمليات حتى تضع الحرب أوزارها. لكن الغرابة كلها تختزل وتتحوصل في الذي يجري بين حكومتنا ودولة جنوب السودان، يخوض جيشنا حرباً لا هوادة فيها مع جيش دولة الجنوب والمرتزقة من العملاء التابعين له في جنوب كردفان والنيل الأزرق وحركات دارفور المتمردة، لا تهدأ جبهة لساعات إلا وفتحت أخرى أو عاودت القوات الجنوبية ومعها مرتزقتها الهجوم مرة أخرى. ففي هذا الجو المشحون برائحة البارود والدماء والأشلاء ورفرفة أرواح الشهداء لا يحق للحكومة أن تذهب لتفاوض في لا شيء مع حكومة جنوب السودان، وقلنا بالأمس إن العقل السياسي الاستخباري الغربي والصهيوني الذي يقف وراء حكومة الجنوب، يريد من كل هذه الجولات تخليط الأوراق وكسب الوقت وخداع الحكومة السودانية بلعبة القط والفار والحرب الخاطفة وحروبات العصابات، إلهاء الحكومة وإنهاكها وإرباكها واستنزافها حتى تتمكن قوات ما يسمى بالجبهة الثورية من تحقيق نصر عاجل في نطاق محدود أو مفتوح، واحتلال مدينة لتصبح هي منصة الانطلاق للهجوم على مناطق أخرى في مخطط إسقاط النظام ونقل المعركة إلى الخرطوم وداخل القصر الجمهوري كما قال مالك عقار من قبل. محاولة استنزاف الحكومة تجري على قدم وساق، ومحاولة استغفال وإلهاء الحكومة، تمضي ونحن نزدرد الطعم، والمخذِّلون في صحف الخرطوم ما يزالون يمارسون رذيلة الانكسار المذلّ ويدعون الجميع لتهيئة الخد الأيسر وإدارته بعد صفع الخد الأيمن ..!!! لقد بحّ صوتنا ونحن نقول.. هذا ليس أوان التفاوض ووقت المفاوضات مع حكومة الجنوب، هذه لحظة تستوجب تحشيد كل الجهد الوطني وتوفير كل الطاقات للتعبئة العامة لرد العدوان وكيد الكائدين، لا تبادل الابتسامات والتزلُّج فوق مزالق التنازلات في انتظار سلام لا يأتي مع حكومة جوبا. على الحكومة عدم الإبقاء على وفدها ضمن الآلية السياسية الأمنية المشتركة لأن هذه الآلية فقدت ضروراتها التي فرضت وجودها، ولا تستطيع هذه الآلية وقف هجوم الجيش الشعبي وتوابعه وأذياله على مناطق جنوب كردفان، ولا تستطيع في المنظور القريب إغلاق كل معسكرات التدريب والتأهيل لبقايا الجيش الشعبي من أبناء جبال النوبة والنيل الأزرق وحركات دارفور المتمردة ..!لا تستطيع هذه الآلية في الأجواء التي نعيشها الآن وضع كوابح تمنع تمدد الحرب وتوسع دائرة اشتعالها، لأن ما يجري على الأرض شيء مختلف تماماً عن ما يدور في القاعات المغلقة. فهناك حرب تدور بضراوة في محاور متعددة لها أهداف معلنة غرضها الأساس احتلال مواقع وأراضٍ ووقف إنتاج البترول وإسقاط النظام.. ويبدو لكل مراقب أن الحكومة لديها خياران فقط لا ثالث لهما: الأول: إما أن الحكومة في توازن القوى على الأرض شعرت أنها في موقف يصعب عليها مواصلة حرب في عدة جبهات، وتريد الحصول على سلام بأي ثمن وكيفية، فذهبت للعاصمة الإثيوبية بفلذات أكبادها للإتيان باتفاق ينهي حالة الحرب ويهدئ هذه الجبهات اللاهبة... وعليها في هذا الخيار تقديم تنازلات أو عقد تفاهمات ليست في مصلحة مفهوم الأمن القومي السوداني على الإطلاق. الثاني، هو خيار مواصلة الحرب وكسر شوكة المعتدين، وهذا يحتاج لترتيبات عاجلة وسريعة في إطار تقوية الصف الوطني الداخلي وإزالة احتقاناته وفتح الباب للمجاهدين في مناطق التماس وحشد الدفاع الشعبي وتوسيع دائرة الاستنفار حتى يتم قهر التمرد وحسم المعركة بالكيفية التي يعرفها المتمردون أنفسهم، ودحر غزو دولة الجنوب، ثم بعد ذلك نذهب للمفاوضات من موقف القوة ونفرض شروط المنتصرين.