تدخل العلاقات السودانية الليبية من المتلازمة المتأرجحة بين الصعود والانحدار، إلى الثبات بشكل أريحي عقب انتهاء الأعوام الثلاثة والأربعين الماضية والتى ظهر خطان بين العقيد الليبي معمر القذافي لهذه العلاقة المزدوجة خط يدعى بأنه يدعم الخرطوم ويفتتح المنشآت الاستثمارية مثل برج الفاتح على شارع النيل بالخرطوم، وخط آخر يستقطب معارضي النظام، من المساندة وتقديم الدعم إلى الاحتواء. لم يكن الغموض الذي شاب علاقة ليبيا بملف دارفور بأقل من غموض القذافي نفسه الذي عاصر ثلاث حكومات سودانية، منها حكومتان تتوسطهما ديمقراطية قصيرة، تأرجح موقفه فيها بشكل بيّن. فقد شهدت العلاقة توترًا مع نظام الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري ثم الرئيس الحالي عمر البشير، أكثر مما شهدته في فترة الديمقراطية الثالثة. القذافي مع النميري حين وصل الملازم حينها معمر القذافي إلى السلطة في ليبيا إثر انقلاب عسكري، في نفس العام الذي وصل فيه نميري إلى السلطة في السودان، وكان ذلك عام 1969، سميا انقلابيهما في مجافاة واضحة للحقيقة بالثورة، فكانت ثورة مايو في السودان وثورة الفاتح من سبتمبر في ليبيا. ولما جاء هذان النظامان الثوريان في أعقاب نكسة 1967 بمصر، وتزامنا مع ثورية الزعيم جمال عبد الناصر، خرجت من تكامل الأنظمة الثلاثة «مصر والسودان وليبيا» فكرة الوحدة بينها.. كانت الفكرة أن يكون هناك تكامل قومي يقوم على أساس الاندماج الاقتصادي والعلاقات الأخوية التي ترفع شعارات ناصر القومية لتطبيقها في هذه الدول وفي الوطن العربي الكبير.. ولأن أخلاق المنقلبين على الديمقراطية تضيق، فإن فترة التعاون والتطبيع في العلاقات بين الرئيسين القذافي والسودان لم تدم طويلاً، وكانت القشة التي قصمت ظهر ذاك الوئام توقيع السودان على اتفاقية تلزمه بعدم التدخل في شؤون الدول الإفريقية المجاورة، ووفقًا لذلك أمر النميري بإنزال مجموعة طائرات عسكرية ليبية كانت تعبر الأجواء السودانية في طريقها إلى أوغندا التي كانت على وشك الدخول في حرب مع تنزانيا، وأمر بإعادتها إلى ليبيا مما اعتبره القذافي خيانة، تلك الحادثة جعلت القذافي يحتضن القيادات المعارضة لنظام النميري المسماة حينها قوى الجبهة الوطنية والمكونة من حزب الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي والإخوان المسلمين، فمدها بالسلاح والتمويل مما مكّنها من غزو الخرطوم عام 1976، وهي ما تم التعارف عليها باسم غزوة قوات المرتزقة.و تواترت الأحداث ليتبنى النميري مساعدة الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا، فرد القذافي بعدها عسكريا بقصف الإذاعة السودانية عام 1984 بطائرة ليبية لاعتقاده أن الجبهة تبث إرسالها من هناك. ثم احتوت ليبيا كثيرا من المعارضين واللاجئين السياسيين الفارين من قمع نميري. وجاء بعدها إعلان القذافي عن دعمه للحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق عام 1984. أما في فترة الإنقاذ عام 1989، لم تشهد العلاقة بين البلدين تقاربا ملموسا لكن لطالما كانت تظهر فيه الخلافات وتطفو بعفل وسطاء السياسية إلا عندما رفع النظام السوداني الشعارات الإسلامية، واستشهد بحركات إسلامية مماثلة بشمال أفريقيا في الجزائر وتونس، ودعوته قيادات حركات إسلامية إلى الخرطوم في فعاليات مختلفة ، ورغم عدم تأثير الجماعات الإسلامية في ليبيا مقارنة بدول شمال أفريقيا فإن القذافي توجس خيفة من تحالف هذه التيارات الإسلامية المحيطة به مع الجماعة التي استولت على الحكم في السودان. القذافي وملف دارفور ظلت العلاقات الدبلوماسية الليبية مع السودان في حالة من الارتباك، كشأنها مع كثير من الدول الأفريقية التي لديها امتدادات قبلية جذورها في ليبيا وفروعها تعبر الحدود إلى مصر وتشاد وتونس. وطبقا لروحه الثورية وطموحه في التوسع عسكريا، وبناء على حسابات وأوهام تصدير الثورة، فقد غزا تشاد عام 1987 لضم قطاع اوزو إلى ليبيا. وعلى إثر هذه المواجهات فكر القذافي في تأمين حدوده الجنوبية بخلق وجود معين في دارفور. هذا الوجود غذاه أبناء دارفور بهجرتهم إلى ليبيا عبر الحدود البرية المفتوحة على السودان، في أزهى عصور ليبيا حيث بئر النفط المسال القريب منهم. وفي ليبيا انضموا إلى الجهاز السياسي المسمى اللجان الشعبية الثورية، ومنها ظهرت الحركات المسلحة في دارفور عند نشوب الحرب هناك. وبدلا من انهيار العلاقات بين البلدين، تحملت الدبلوماسية السودانية تقلب مزاج القذافي، واحترمت الشعب الليبي خاصة وانه كان المحصر الحقيقي جراء العقوبات الغربية المفروضة علي ليبيا منذ العام 1992 على خلفية قضية لوكربي ، رغم ان السودان كان يعيش ظروفا مشابهة للشعب الليبي على خلفية العقوبات الاقتصادية المفروضة عليه ووضعه في قائمة الدول الراعية للإرهاب، فكان التعاون بغرض كسر الحصار بين البلدين. لكن عندما اشتعلت الحرب في دارفور عام 2003، شكلت الحركات المسلحة - كحركة العدل والمساواة وجيش تحرير السودان وفصائل أخرى- جبهات للمعارضة والمطالبة باستقلال الإقليم الذي يعاني تهميشا (حسب زعمهم) ، أدت المواجهات بين هذه الحركات والحكومة إلى التصعيد الدولي لقضية دارفور، فعقد القذافي ملتقى في ليبيا عام 2004 على أول أيام الحرب، ضم الحركات المسلحة. وقد لعبت تشاد وليبيا دورا حيويا في إذكاء نار الصراع بتقوية الحركات واحتوائها واستضافتها ، وبعدما جمدت حركة العدل والمساواة مفاوضاتها مع الحكومة السودانية في الدوحة بحجة مخالفة الحكومة للاتفاقية، أمرت الحكومة بالقبض على خليل إبراهيم بتهمة تورطه في غزو أم درمان في مايو 2008. ولكن التحركات الدبلوماسية أثرت على وجوده في مصر فغادرها إلى تشاد ليتركها هي الأخرى بعد تطبيع العلاقات بين السودان وتشاد في اتفاق الطائف برعاية الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز، ليعود بعدها خليل إبراهيم إلى ليبيا التي رحبت به ترحيبا كاملا كرد فعل على ما اعتبره القذافي سحبا لملف دارفور من الرعاية الليبية. لم تثنِ العقيد القذافي عن استضافته خليل إبراهيم كلُّ الوساطات الدبلوماسية التي أرسلها الرئيس عمر البشير إلى ليبيا، كما لم يلبي طلبه الشخصي عبر الهاتف. احتواء القذافي للحركات الدارفورية المتمردة وتواجد زعيم حركة العدل والمساواة هناك بعد طرده من تشاد، أعاد إلى الأذهان غزوة الحركة لمدينة أم درمان في مايو 2008 والتي أعادت بدورها غزو ذات المدينة بواسطة قوات المرتزقة المكونة من أحزاب المعارضة والتي دعمها القذافي عام 1976. كل ذلك أدى إلى توتر العلاقات وإغلاق وزارة الداخلية في يوليو الماضي جميع الحدود والممرات بين ليبيا والسودان. المرتزقة يعودون عاد مصطلح المرتزقة إلى الأسماع من جديد، وله ما له من وقع خاص في أسماع السودانيين، فهو يذكرهم بغزو أم درمان في سني حكم النميري الأولى من قبل قوات المعارضة المدعومة ليبيًّا. عاد المرتزقة، وفي عودتهم تجلت انعدام الرؤية الإنسانية للعقيد القذافي الذي هب لقمع ثورة الشعب في بلاده بتأجير مقاتلين أفارقة أضرموا النيران وأسالوا الدماء. أما الحكومة السودانية فقد أكدت أن من يسمونهم المرتزقة الأفارقة ينضم إليهم سودانيين متتمردين من حركات دارفور المسلحة اشتركوا في حمام الدم بليبيا. وجاء على لسان الحكومة أن لديها أدلة على ضلوع بعض العناصر من حركات دارفور المتمردة في الأحداث الجارية بليبيا، بيد أنها لا تعرف ما إذا كانت الحركات موجودة أصلا داخل الأراضي الليبية أم أنها دخلت عبر الحدود السودانية أثناء الأحداث ضمن استعانة العقيد الليبي معمر القذافي بمرتزقة من دول أفريقية يفتحون نيران أسلحتهم الآلية على المتظاهرين. ونفت حركة العدل والمساواة الخبر ولم تنفه بقية الحركات، كما لم ينفه القذافي الذي قال إن الأفارقة أتوا ليحموا ملك ملوك أفريقيا. وسواءً صحت هذه المعلومات عن اشتراك مرتزقة من حركات دارفور أم لا، فإن وجود السودانيين في ليبيا بات معرضا للخطر مثلما حدث في مدينة الزاوية التي قتل فيها مئات الأفارقة بينهم عشرات السودانيين عام 2000. ولكن التهديد الأكبر يقع على وجود الحركات الدارفورية بما فيها زعيم حركة العدل والمساواة خليل إبراهيم الذي بات وجوده في ليبيا رهينا ببقاء القذافي، كما أن علاقات الخرطوم مع طرابلس رهينة بمن سيخلفونه في حال تغير نظامه. وبالرغم من تقلب اتجاهات السياسة الخلرجية لليبيا حسب مزاج زعيمها الشخصي، فقد سعى السودان إلى الوقوف في محطات للتفاهم مع ليبيا درءا لكثير من المشاكل وسدا للثغرات التي فرضها الجوار خاصة مع إقليم ملتهب كإقليم دارفور، ولكن تقلب مزاج العقيد القذافي لا يترك له موقفا محددا عندما تتطلب أعقد الأمور مزيداً من الإيضاح والتحديد. تتسع وصاية القذافي لتشمل شؤون السودان الداخلية فيدعم الحركات الثورية من منطلق أنه ثائر يدعم الثوار. وما اضطرار السودان للتعامل مع ليبيا خلال سنوات الوئام تلك إلا لتقليل تأثير زعيمها السلبي، إذ لم يعد يكسبه كمؤيد ومعين في تحقيق نوع من السلام ، لكن القادم عقب سقوط العقيد القذافي بناء على الاجتماعات التى عقدت واللقاءات التى تمت بين الخرطوم والمجلس الانتقالي الليبي والوفود السودانية التى زارت ليبيا عقب الازمة كلها تبشر بمتقبل عريض وامال كبيرة بين البلدين السوداني والليبي بدون القذافي.