اتصالاً مع سؤال التربية يرد السؤال عن علاقة الحركة الإسلامية بالتصوف. فالحركة الصوفية هي الطابع العام للتدين في السودان بل في سائر إفريقيا. ولذلك فإن تحديد موقف الحركة الإسلامية من التصوف والطرق الصوفية يصبح أمراً مهماً للغاية.. ذلك أن معرفة البيئة الثقافية والقدرة على التكيّف معها يبقى أمراً ذا أهمية بالغة لتيسير وتعجيل وصول الحركة الإسلامية لتحقيق هدفها في بعث معاني الدين ومقاصده في الحياة من جديد.. وتمليك رسالة تمكينه في الوجدان والأوطان للمجتمع بأسره. ورؤية الحركة الإسلامية للتصوف هي ذات رؤيتها لسائر المذاهب العقدية والفقهية السائدة في المجتمعات الإسلامية. فهي تراها طرقاً تفضي إلى ذات الطريق اللاحب الواسع المؤدي إلى إعلاء كلمة الله وإشاعة هديه في العالمين. وموقف الحركة الإسلامية منذ أيام الإمام البنا أنها ترى نفسها جماعة صوفية لا باتباعها النهج التربوي الوجداني فحسب بل إن الأمام حسن البنا قد أخذ عن الطريقة الشاذلية الحصافية التي كان ينتمي إليها قبل تأسيس الحركة طريقتها في بناء المجموعة المتآخية والتي سمّاها البنا بالأسرة.. وجعل أهم وظائف الأسرة التعارف والتواصل في الله.. ثم إن الإمام البنا أخذ الوظائف والأوراد واعتمد الوظيفة الصغرى والكبرى.. واهتم بالأذكار الراتبة المأثورة.. كما اهتم بالسيرة النبوية اهتماماً يشبه اهتمام السادة الصوفية بها في موالدهم وحضراتهم. واهتم بكتب المعاني والرقائق.. وإحياء المناسبات الدينية مثل المولد النبوي والإسراء والمعراج.. لتجديد ذكرى رسول الله صلى الله عليه وسلم . وتعطير الأمكنة والأزمنة بذكره الشريف. وفى السودان قل أن تجد زعيماً من زعماء الحركة الإسلامية أو عضواً من أعضائها لا ينتمي إلى أسرة متصوفة، ولذلك فإن الحركة الإسلامية قد تشربت ثقافة التصوف وانسربت معانيه وتقاليده في وجدان أفرادها. وأدى ذلك إلى تجسير الفجوة بينها وبين الطرق الصوفية التي هي شعبية الطابع بينما الحركة الإسلامية نخبوية التكوين.. ولم يكن ذلك القرب ثقافياً فحسب بل أدى إلى اقتراب العديد من الطرق الصوفية سياسياً من الحركة الإسلامية.. فشاركت طرق رئيسة مثل التجانية والسمانية وبعض جماعات القادرية في تأسيس جبهة الدستور الإسلامي بعد الاستقلال ثم بعد تأسيس جبهة الميثاق الإسلامي بعد ثورة أكتوبر 1964م.. بيد أن تقارب الحركة الإسلامية والطرق الصوفية لم يعن أنه لم تكن للحركة الإسلامية ملاحظات على بعض صور الفكر والممارسات السائدة في بعض الطرق الصوفية. فالحركة الإسلامية حركة مراجعة فكرية ومحاسبة ذاتية وهي لا تزكي فرداً ولا فكراً ولا ممارسة داخلها.. وكما أنها ناقدة لنفسها فهي ناقدة لغيرها. ولكنها تعرف لأهل الفضل فضلهم وتعرف للطرق الصوفية في السودان جهادها ومجاهداتها.. فتذكر جهاد العبيد ود بدر والشيخ المجذوب وشيخ مدثر الحجاز الأكبر.. وتعرف لرجال أمثال الشيخ أحمد الطيب والشيخ قريب الله والسادة الأدارسة والسيد الحسن وأمثالهم قيادتهم لمجتمعاتهم للبر والتقوى وتدرك الأثر التربوى والثقافي الذي خلفه الشيخ البرعى ومن قبله رجال مثل حياتي وود سعد وحاج الماحى وأمثالهم. لا شك أنه سوف يتعسر على أي مؤرخ أن يتحدث عن تاريخ التدين في السودان دون أن يعرف لرجال الجهاد والدعوة والتربية من الطرق الصوفية مكانهم وفضلهم الكبير. بيد أنه وعلى الرغم من ذلك فإن الحركة الإسلامية كانت دائماً حركة مراجعة وتجديد للفكر الديني الصوفي منه والسلفي فهي لم تر نفسها بعيدة من هؤلاء ولا من أولئك . ولكنها أدركت أن أفضل ما يليق بها أن تكون جسراً بين مدرستين عتيقتين في الفكر والسلوك الديني هما المدرسة الصوفية والمدرسة السلفية. والمقاربة بين النهجين السلفي والصوفي ليس أمراً محدثاً فقد تجشمها الإمام الحارث المحاسبي والإمام الأصفهاني والإمام الغزالي. وحاولها الأئمة ابن قدامة وابن تيمية وابن قيم الجوزية. وقد كان بعض أولئك الرجال سلفياً صوفياً في آن واحد.. فالصوفي السلفي هو الإمام ابن تيمية وكذلك تلميذه ابن القيم صاحب مدارج السالكين.. والسلفي الصوفي هو الإمام الحارث المحاسبي وكذلك الإمام الغزالي.. بيد أن الشُقة قد تبتعد بين مبتدعة الصوفية ومتشددة السلفية والتشدد نفسه ضربٌ من ضروب الابتداع. فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالرفق ونهى عن التشدد.. ولذلك فإنما تبعد الشقة بين المبتدعة من الفريقين.. وأما أهل التمسك بالمنهج النبوي المحمدي فإنما يسلكون مذاهب تقودهم جميعاً إلى سبيل السنة وإلى صراط الله المستقيم. والسؤال عن الصوفية يقود إلى سؤال عن موقف الحركة الإسلامية من الجماعات السلفية وإلى أي مدى تلتقي معها وأين مواضع الافتراق والاختلاف؟ وشأن الجماعات السلفية هو شأن الطرق الصوفية فهي متعددة ومتنوعة ومتفاوتة في أفكارها وفي مناهجها العملية.. ولذلك فليس من السهل تحديد موقف واحد منها وكأنها فئة واحدة. ولكن الإمام البنا الذي قال عن الحركة الإسلامية إنها طريقة صوفية قال إنها حركة سلفية. ولاشك أن ارتباط الإمام البنا بالحركة السلفية معلومٌ بسبب تتلمذه على أستاذه رشيد رضا الذي هو امتداد لمدرسة محمد عبده السلفية التجديدية.. والسلفية أساسها اتّباع نهج السلف الصالح الذين هم الجماعة المهدية بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه عليهم الرضوان.. ومنهج السلف هو منهج الاتباع لا الابتداع. والاتباع هو اتباع الكتاب والسنة والابتداع هو الإتيان بأمر فى التدين ليس له أصل في الكتاب والسنة. فالكتاب والسنة هما منارة الهداية للصراط المستقيم ومن عمي عن الاهتداء بهما فقد ضل ضلالاً بعيدًا. والحركة السلفية هي حركة احيائية تجديدية . ذلك أنها إنما جاءت استدراكاً لفتنة الصراع المذهبي والتناحر بين النحل والفرق والجماعات في أمور العقيدة والشريعة. فجاءت لترد الأمر إلى أصله الذي صلُح به ابتداءً والذى هو الكتاب والسنة.. ودعوة الحركة الإسلامية إنما هي العودة للمنابع الصافية في الكتاب والسنة ومحاكمة كل المذاهب والآراء والفتاوى والاجتهادات إليهما. وبهذا المعنى الحقيقي للدعوة السلفية فإن الحركة الإسلامية حركة سلفية تريد رد الحياة لتستقي من المشارب النقية وتهتدي بالأنوار الباهرة للقرآن المجيد والسنة المطهرة. وهي لا تحتاج أن تختار بين الصوفية والسلفية فهما لا يتوازيان بل هي صوفية متبعة للمنهج السلفي. فشأنها شأن غالب أهل السودان الذين يبغضون البدعة ويكرهون التشدد ويحبون الاستقامة وأهلها والزهد وأهله ويحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ينبغي أن يُحب فوق حب المال وحب الولد وحب النفس الثاوية بين الجنبين.