ما لم تشر إليه كل التقارير ومقالات الرأى وإجابات الحوارات والاستطلاعات حول الهجوم على مدينة في العمق السوداني واحتلالها التي هي هجليج ما لم تشر إليه بصورة وافية هو الرأي العام لشعب دولة جنوب السودان أو أغلبه إذا لم يكن كله.. والسؤال هنا هو الرأي العام الجنوبي حول ما قامت به جوبا بالتعاون مع حركات التمرد الدارفورية وامتداد الحركة الشعبية في جنوب كردفان بعد توقيعها على اتفاق إطاري مع الخرطوم لحريات أربع وزيارة وفد منها برئاسة باقان أموم إلى الخرطوم؟!.. إن شباب دولة جنوب السودان الآن ليسوا كما كانوا قبل اتفاقية أديس ابابا مارس 1972م المعروفة، فهم بعد هذه الاتفاقية تهيّأت لهم فرصة التعليم ليتأهلوا لاتخاذ مواقف سياسية بإرادة مستقلة، ومعظمهم الآن يشكل ثقل ثوار دولة جنوب السودان خاصة على المستوى السياسي، ويتمتعون بوعي سياسي واجتماعي يجعلهم يقيسون كل ما تقوم به الحركة الشعبية الحاكمة بمقياس المنطق ومعيار الموضوعية وميزان المصلحة العليا لبلادهم.. ولابد أنهم في خضم أزمات بلادهم الأمنية والاقتصادية والسياسية يتساءلون: ما هو دور حكومة بلادهم في مشاريع التآمر الغربية الصهيونية؟!! إن الرأي العام الجنوبي منذ انتخابات عام 2010م في اقليمالجنوب حينها كان واضحاً جداً على الساحة الجنوبية، فقد بدأ اندلاع التمردات في مناطق مختلفة «التسوي كريت في القرض تلقاه في جلدها» فما كانت تفعله الحركة الشعبية منذ عام 1983م ضد الخرطوم فعلت أسوأ منه قوات الحركات المتمردة هناك ضد جوبا.. وقوات هذه الحركات منشقة من الجيش الشعبي ومازالت الانشقاقات مستمرة وآخرها مجموعة النوير التي انسحبت قبل يومين من هجليج لاختلافها مع الجيش الشعبي الذي تحارب في صفوفه وحركات دارفور. السؤال هو: هل الشعب الجنوبي ولو في أغلبه على الأقل يؤيد احتلال حكومة جوبا لمدينة سودانية لم تدخل يوماً ومنذ عام 1955م في ملف قضية الجنوب؟! هل لشعب الجنوب بعد الانفصال قضية مع السودان اسمها هجليج أو «أبيي»؟! يوغندا وكينيا تحتلان من وقت بعيد منطقتين في دولة جنوب السودان هما قولو ومثلث أليمي، وهل يرى الشعب الجنوبي أنهما منطقتا تكامل؟! ربما تنازلت عنهما حكومة جوبا مقابل مصالح معينة مثلما تنازل حزب البعث الحاكم في سوريا عن منطقة الجولان المحتلة عام 1967 بمقابل ضمني هو عدم التعرض لسلطته من قبل الدول الكبرى الصديقة جداً لإسرائيل.. مهما كانت حمامات الدم بواسطة قواته البعثية والطائفية ضد أغلب الشعب السوري.. إن الرأي العام الجنوبي يقف في اتجاه ضرورة التغيير الثوري الفوري واقامة نظام ديمقراطي يرسمه الشباب الذي علمته حكومة نميري حكومة البشير وما بينهما حكومتا سوار الذهب والصادق المهدي.. أضف إلى ذلك البعثات التعليمية في الخارج. إن إقامة نظام ديمقراطي في جوبا يعني وضع برامج لصالح الاستقرار والتنمية والوحدة القبائلية هناك. وهذا بالطبع افضل من توظيف دولة الجنوبالجديدة لصالح تنفيذ مشروعات أجنبية على حساب حاضر ومستقبل الشعب الجنوبي.. إن الحركة الشعبية تخالف الرأي العام الجنوبي تماماً، وإذا كانت ترى أن الحرب لابد منها مع السودان بعد الانفصال فإن هذا الوقت غير مناسب بالنسبة لمصلحة الشعب الجنوبي وإن كان مناسباً للتآمر الامريكي الصهيوني.. ثم إن واشنطن واسرائيل أصحاب المصلحة في هذه الحرب غير المنطقية لم نجدهم قد أعانوا شعب الجنوب، فالجسر الجوي الاسرائيلي يأتي بالسلاح ليحارب به عقار والحلو وحركات التمرد الدارفورية الاستثمارات النفطية للشركات الشرقية في السودان.. حتى تُخلي الجو للشركات الغربية. الشعب الجنوبي جائع جداً ومريض وخدماته الأساسية منهارة ويعيش تحت المخاوف الأمنية.. وتحكمه اقلية بنتيجة انتخابات مزوّرة علناً.. أوقفت إنتاج النفط بإيعاز من الخارج واحتلت مدينة سودانية بالتعاون مع حركات سودانية متمردة تختشي من إعلان هدفها الحقيقي المفضوح.. ماذا يستفيد شعب الجنوب من كل هذا؟! وإلى متى سيظل خائفاً من الآلة العسكرية التي تحمي بها الحركة الشعبية حكمها الدكتاتوري الدموي؟! إن كاتب الرأي لا ينبغي أن يحرّض جهة على الأخرى، لكن حينما يُسال حبر القلم في قضية وطنية في وطن يتبع له الكاتب فلابد مما ليس منه بد.