لا أزال مذهولاً، لا أكاد أصدق ما رأيته وما أراه منذ أن أُعلن عن تحرير هجليج من التفاف حول هذه القطعة الغالية من تراب وطني.. سألت نفسي: ما هذا الذي أذهلني.. ما هذا الذي أدهشني.. ما هذا الذي حيّرني؟! ترى ما الذي فجَّر هذه الروح الآن بهذه الصورة المُدوِّية؟! إنها دعوة لعلماء النفس والسياسة والاجتماع للإجابة عن هذا السؤال الذي يجعلني أقولها الآن وبكل جرأة إن عشرة أيام فقدنا خلالها هجليج خسارة قليلة وزهيدة للغاية مقارنة بما تحقَّق من إجماع وطني وانبعاث للروح الوطنية. فقدنا شهداء كرامًا.. ارتفعوا إلى جنات الخلد وهناك جرحى عانوا في سبيل القيم العُليا التي آمنوا بها بل هناك من تحسَّر على بترول فقده السودان إلى حين لكنها والله كلها خسائر ضئيلة إذا قِيست بما تحقَّق من انبعاث لهذه الروح التي أشهد أنَّني لم أَرَ مثيلاً لها في حياتي. كان أهل شرق النيلبالخرطوم على سبيل المثال الذي أعلم أنه تكرر في شتى أنحاء السودان.. كانوا ينحرون الذبائح في الشوارع ويُطلقون الرصاص في الهواء.. تلقَّينا اتصالات من شتّى بقاع السودان تؤكِّد أن ما حدث في الخرطوم تكرر في تلك البقاع.. الدلنج خرجت عن بكرة أبيها إلى الشوارع.. بورتسودان أغلقت شوارعها وهكذا دواليك. إني أرى سوداناً جديداً يتشكَّل وربِّ الكعبة.. سودان ما بعد الانفصال.. سودان الاستقلال الحقيقي الذي تحرر في التاسع من يوليو «2011م» من عبء الجنوب وأصبح أكثر تجانساً وأقل تشاكساً.. إنه السودان الذي يجمع تلاميذه على منهج دراسي واحد يعتبر الإمام المهدي وعثمان دقنة والزبير باشا أبطالاً وعظماء لا خَوَنَة وتجار رقيق كما كان يراهم ذلك الجزء السرطاني من سوداننا القديم. لعلَّ من أعظم دروس ملحمة هجليج أنها أسقطت من وجدان الشعب السوداني ذلك الجز السرطاني الذي لطالما تغنَّينا له في سذاجة أيام طفولتنا حين لقَّننا الكبار (منقو قل لا عاش من يفصلنا).. لقد تعلَّمنا في هجليج أن ذلك الجزء من وطننا القديم الذي وُحِّد مع وطننا رغم أنوفنا وبدون استشارتنا.. تعلمنا أن ذلك الجزء هو العدو الإستراتيجي الذي احتلَّ عروستنا الجميلة هجليج وعدداً من أخواتها في جنوب كردفان والنيل الأزرق بل هو العدو الذي يُضمر الشر ويُصِرُّ على استعمارنا من خلال إصرار قادته على أن يُبقوا على اسمه القديم (الحركة الشعبية لتحرير السودان).. أي أنهم يحملون مشروعاً لتحرير السودان منا نحن أهله فهل بربِّكم من عدو أكبر من الحشرة الشعبية أو حكومة الجنوب الحالية (حكومة سلفا كير وباقان وألور)؟! إذن فإن الشعب السوداني توحَّد حول (السودان الجديد) بحدوده الجغرافية الجديدة بعد أن توحَّدت هُويَّته وتاريخه وثقافته وبعد أن زال الجزء المعطوب المشاكس الذي كان يؤخِّر مسيره ولا يزال يتآمر عليه كما توحَّد حول إسقاط الجزء المريض من السودان القديم من وجدانه بعد أن أصبح عدوًا لدودًا كل دول الجوار أقرب إلى السودان منه. إذن فإن هجليج صعَّبت مهمة كل من يحمل عاطفة تجاه دولة جنوب السودان ويشمل ذلك من يتحالفون مع دولة جنوب السودان من الحركات الدارفورية المتمردة وفاروق أبو عيسى ومبارك الفاضل المهدي ولا أقول الرويبضة عرمان فهو أصلاً قد مات من قديم ولذلك فإن على جميع القوى السياسية أن تعلم، إن كانت تطمع في أي دور سياسي في مستقبل السودان، أن دولة الجنوب ينبغي أن تخرج من حساباتها تماماً. أقول ذلك ناصحاً صحافة الغفلة التي لم تفهم حتى الآن شفرة (الإنتباهة) التي جعلتها تطبع يوم السبت الماضي، وهو يوم عطلة، (120) ألف نسخة.. إنها هدية نقدمها بكرم حاتمي حتى تلحق بركب «الإنتباهة» التي استطاعت أن تحتل مكاناً علياً في نفس الشعب السوداني لا أقول لأنها سايرت الشعب فيما يريد إنما أقول لأن الشعب اقتنع برؤيتها ورؤية منبر السلام العادل لمعالجة العلاقة المأزومة بين الشمال والجنوب ومن ثم بين دولة السودان ودولة جنوب السودان. كنتُ قد نصحتُ القوى السياسية بأن تتمعَّن في سر هذا الانعطاف أو قل الالتفاف الوطني بغرض معرفة كيفية التعامل مع هذا الشعب الذي أصبح أكثر وعياً وأنضج من أن يُساق كالقطيع وأكثر انحيازاً للوطن الأمر الذي ينبغي أن يجعل الأحزاب، التي لا تكترث كثيراً للشعب حين تنحاز إلى أعداء الوطن والمتمردين عليه، أكثر حذراً في تصرفاتها وإلا فإنها تجازف بمستقبلها وأخصُّ المؤتمر الشعبي الذي غامر كثيراً بعدم إدانته لاحتلال هجليج والشيوعي الذي جاءت إدانته المنقوصة متأخرة. الدور على المؤتمر الوطني الذي أعلم، وقد حضرتُ لقاء الساحة الخضراء، أنه المعنيّ أكثر من غيره كونه الحزب الحاكم فقد رأت قيادات الوطني الشعب وهو يزأر مطالباً بالقصاص: (الشعب يريد تحرير الجنوب) وكانت الجماهير تعني ما تقول، فهي تريد الثأر لكرامتها، وكانت تريد من الرئيس البشير أن يثبت على تعهداته بتحرير جوبا فقد كانت هتافاتها تشقُّ عنان السماء ولا أخشى على البشير إلا من منبطحي المؤتمر الوطني ومن ذلك الجنوب إفريقي البغيض ثابو أمبيكي الذي ينبغي أن يُعتذر له فقد أخلص البشير في التعامل معه وشهد هو على غدر الحشرة الشعبية وآن الأوان لرد كل محاولات التأثير على القرار الوطني الذي ينبغي أن ينحاز إلى إرادة الشعب فلا تفاوض قبل أن تُقتلع الحركة الشعبية من جوبا.