رغم برودة الجو وزخات المطر والسحب الداكنة التي تغطي السماء فوق ضاحية ديراندبورج ببرلين، واحتفالات صاخبة لا تتوقف لمشجعي فريق دورتموند عقب الفوز الكاسح أمس على بايرن ميونخ في مباراة كأس الدوري الألماني بخمسة أهداف مقابل ثلاثة، جابت فيها جحافل المشجعين وسط وأنحاء مختلفة من برلين، إلا أن الجو كان أكثر سخونة بكثير من ربيع العاصمة الألمانية البارد، داخل دار الجالية السودانية التي كانت تحتضن ندوة عن الوضع السياسي بالسودان ودور الصحافة الوطنية ووظيفتها في هذا الانعطاف المهم في تاريخ البلاد. وتشاركنا في محاضرة أنا والدكتور كمال حنفي الكاتب رشيق العبارة وعميق الأسلوب بصحيفة الرأي العام، أمام لفيف من أعضاء الجالية السودانية ومن السودانيين الحاصلين على الجنسية الألمانية، عن الوضع الراهن في البلاد ودور صحافتنا الوطنية، التي تلقي عليها مسؤوليتها أعباء كثيرة وكبيرة تجعلها تمسك بأعنة تبصير وتنوير الرأي العام بما يدور في البلاد وحولها وما يحاك ضدها وما ينبغي علينا جميعاً أن نفعله حتي تجتاز بلادنا هذا المعبر بأشواكه وألغامه وتنكشف حجب الظلام التي تلفه .. وبالرغم من أن النقاش كان قوياً والمداخلات والتعقيبات على الأسئلة من كل المنتسبين للأطياف السياسية السودانية، فثمة ملاحظات ذات نفع وأهمية بدت وتدلت حقائق لا يمكن تجاوزها في تضاعيف هذه المحاضرة أو الندوة، فالسودانيون المقيمون بالخارج شديدو التأثر بما يجري في بلادهم، ويقعون داخل شرنقة الدعاية السوداء التي تنتهجها وسائل الإعلام الدولية التي تشيع عن السودان كل فرية وأكذوبة، مع عجز وسائل الإعلام الوطنية داخل السودان عن مجابهة الحملات الدعائية الظالمة ومواجهتها، وقصور الدولة في تقديم دفوعاتها ومعلوماتها وحقائق الأوضاع، ويحار الكثيرون منهم في كيفية التعامل مع الضخ الهائل من المعلومات حول بلادهم والتباسات المواقف وتعارض التصريحات وضياع المفيد والصحيح بين آكام وآجام الغياب الإعلامي الوطني ودغل التضليل الخارجي. ولا تهتم الدولة عندنا كثيراً بضرورة تقوية الإعلام الخارجي وتوفير كل الإمكانات والوسائل بالملحقيات الإعلامية الخارجية وهي تحاول رد الجائحة وغائلة الدعاية الأجنبية المجحفة، مثلما هي لا تهتم بتطوير الإعلام المحلي والقومي ليقوم بدوره ومهمته في توضيح حقيقة ما يجري في البلاد، وتقديم المعلومات وكل ما من شأنه إزالة التشوهات عن صورة السودان، وإزاحة الغبار الذي يغبش وجه الأوضاع فيه. وأشد ما لفني من حزن أن الأستاذ الكبير والخبير الإعلامي القدير حسن عبد الوهاب الذي حضر معنا هذه المحاضرة وهو أيقونة سودانية نادرة في مجاله ومعلم من معالم برلين، لا يستطيع بلده الاستفادة منه إلا في القليل المتعجل والنذر اليسير من السوانح والفرص العابرة، مثله غيره من الخبراء والمختصين والعلماء في كل المجالات، فقد تحدث حديث العارفين عما يتعرض له السودان من دعاية وهجوم إعلامي وتكثيف لأساليب وطرائق النيل منه سياسياً وإعلامياً على المستويين الإقليمي والدولي، وتناول في مداخلته القيمة وبتفنيد عميق ما يحدث في السودان منذ التمرد الأول في توريت في 18أغسطس 1955م، ومقتل الآلاف من التجار والموظفين الشماليين، وكيف أن الاستعمار والقوى الدولية، صنعت مشكلة جنوب السودان ودعمت توجهات النخب السياسية الجنوبية للتآمر على السودان ومحاولة إضعافه ومسخ هويته، مذكراً بالتطورات التاريخية في علاقة الجنوب بالشمال، ودور دولة الجنوب الذي تقوم به الآن ضمن منسج ضخم يحيك المؤامرة ضد السودان ووجوده واستقراره، وركز الأستاذ حسن على مناهج الإعلام الغربي وتعاطيها مع قضايا السودان وصناعة الصورة المطلوبة له في إطار ما يتعرض له. وبقية الأسئلة والتعقيبات مؤداها الجوهري أن السودان يتعرض لمؤامرة ضخمة لا بد فيها من جمع الصف الوطني وتقوية اصطفاف السودانيين وخبو نار الخلافات، والنظر في شأن مواجهة الحملات الإعلامية، والاستفادة من الخبرات السودانية ذات الصلة بالخارج فهم عماد الوطن.