«نحن نشكر حكومة السودان ونقدر جهود الرئيس أمبيكي.. نحن مسرورون جداً للتمكن من الرحيل الآن». كانت تلك كلمات الجاسوس النرويجي «جون سوربو» رابع اربعة جواسيس كان الجيش السوداني قد ألقى القبض عليهم في الثامن والعشرين من الشهر الماضي داخل الأراضي السودانية في منطقة هجليج بعد تحريرها وقد ألقى الجاسوس سوربو هذه الكلمات أمس الأول عقب قرار السودان الإفراج عنهم بعد حوالى ثلاثة أسابيع فقط من القبض عليهم. وقد كان الجاسوس صادقاً في كلماته وفي تعبيره عن شدة «سرورهم» من التمكن من الرحيل، فما كان هذا الجاسوس وزملاؤه الثلاثة يحلمون لا يقظة ولا مناماً أن يتم «إخلاء» سبيلهم هكذا بهذه السرعة الماكوكية وبهذه الكيفية وبهذه الأريحية وبصحبة رئيس سابق «معززين مكرمين»، فحُق لهم أن يفرحوا ويُسَرّوا وتغشاهم السكينة لأنهم يعلمون جيداً أكثر من غيرهم خطورة ما كانوا يقومون به وفداحة عاقبة فعلهم هذا، فالجاسوس يعلم تمام العلم أن مصيره إذا ما تم القبض عليه وافتضاح أمره هو أحد أمرين لا ثالث لهما قط، فإما أن يقتل وإما في أحسن الفروض يُرمى في غياهب السجن ليقضي بقية حياته فيه، أما أن ينجو بفعلته هكذا وفي وقت وجيز كهذا فهو ما لم يكن هؤلاء الجواسيس الأربعة يحلمون به، حمدت الله كثيراً وربما غيري فعل ذلك على أن السلطات لم تقم بعمل «حفل وداع» للجواسيس الاربعة علي غرار حفل الحريات الأربع الذي رقص فيه من رقص وعرض فيه من عرض، فالحمد لله على أن ذلك لم يحدث والشكر للحكومة على هذه اللفتة البارعة منها ومراعاتها للمشاعر الوطنية القوية التي أحيتها ملحمة تحرير هجليج في الشعب السوداني، هذه الملحمة التي في تقديري كانت نقطة فارقة وحدث مفصلي جلل في تاريخ الأمة السودانية كان ينبغي تدعيمه وتقويته والإبقاء على جذوته متقدة لتنير للأمة طريقها ولتحيي وتبعث فيها أمجادها التي غابت ردحاً من الزمن لا أن يتم إخمادها بمثل هذه الواقعة. حينما تم القبض على الجواسيس الأربعة قال المتحدث الرسمي باسم القوات المسلحة العقيد الصوارمي خالد سعد «لقد ألقينا القبض عليهم داخل الحدود السودانية في منطقة هجليج وكانوا يجمعون مخلفات حربية لمعاينتها وأنهم لديهم خلفية عسكرية وكانوا يحملون تجهيزات عسكرية ويتنقلون في سيارة عسكرية، وهذا الأمر يؤكد ما قلناه من قبل من أن عدوان جنوب السودان على هجليج كان مدعوماً من قبل خبراء أجانب». إذن فكل هذه الحيثيات وقرائن الأحوال التي ذكرها الصوارمي تشير بوضوح إلى أن هؤلاء الأربعة لم يكونوا في رحلة قنص أو صيد ترويحية، ولا كانوا صبية يقومون بتسجيل حلقة من حلقات برنامج «عيش سفاري» للأطفال، ولا هم أكاديميون في رحلة بحثية علمية ميدانية، ولا كانوا مراسلين حربيين يريدون أن يسجلوا بكاميراتهم Aftermath «ما بعد» معركة تحرير هجليج بحثاً عن سبق أو تميز صحفي، لم يكونوا أيّاً من أولئك بل كانوا جواسيس محترفين سيماهم في وجوههم من أثر التجسس!!. الغموض والإبهام هما سيدا الموقف بخصوص الإفراج عن هؤلاء الأربعة، فوزير الدفاع فسَّر الماء بالماء حين قال «تم الإفراج عنهم لأن اثنين منهما كانا يعملان لدى شركة جنوب إفريقية ولأن السودان يثمِّن جهود الرئيس أمبيكي لحل المشكلات بين السودان وجنوب السودان، لقد أفرجنا عنهم وسُلِّموا إلى الرئيس أمبيكي»!!. أمبيكي بدوره مضى في ذات الاتجاه فقال وهو يمتلئ زهواً موجهاً حديثه للجواسيس الأربعة «لقد أثرت قضيتكم مع الرئيس البشير وشرحت لنا الحكومة ظروف توقيفكم وحينئذٍ طلبت من الرئيس البشير الإفراج عنكم.. وسنغادر معاً جميعاً»!!. وحواجب الدهشة ترتفع حتى لتكاد تلامس الأقفية، بسبب هذه الخطوة، وتثور أسئلة فسيفسائية عديدة في هذا الشأن ولكنها لا تبحث عن إجابات قط فما نفع الإجابات عن أسئلة بدهية من شاكلة من أي اتجاه «تشرق» الشمس، وفي أي اتجاه «تغرب»؟. وليس من «الذكاء» في شيء أن يطرح المرء كل تلك الاسئلة التي تتدافع في «الدماغ» وتتوالد بطريقة «أميبية» حول هذه القصة، قصة الجواسيس الأربعة، فكل فصل فيها واضح وضوح الشمس في رابعة النهار، وبالتالي فإن طرح تلك الأسئلة لا يخرج عن كونه تحصيل حاصل وعملاً عبثيًا لا يسمن ولا يغني من جوع. ولكن السؤال الوحيد الجدير بالطرح هنا في هذا المقام وقد طرحناه في مناسبة أخرى من قبل و في هذه المساحة هو: ما الذي يجري؟.